هو المتذمّر الأبدي، مهما كان الدور، ومهما تنوّعت الشخصية. التصق به التذمّر، وصاحبته الشكوى، وسكنه الاستياء، فبات أداؤه مميّزاً ومُحبّباً، إلى درجة ليس ممكناً تقبّله من دونها. كأنّه شخصية واحدة لأدوار عدّة. لا أحد يُمثّل مثله. إنّه جان ـ بيار بكري، الراحل في 18 يناير/ كانون الثاني 2021. ظرافته في تأتأته وتقطيبه المستقرّ. في كآبته وحزن عينيه. في انتقاده وعدم رضاه عن شيء. كلامه سريع ومستاء دائماً. وسامته خاصة. إنّه على حدة في السينما الفرنسية، تمثيلاً وكتابة. مُمثّل وسيناريست ومسرحيّ ومخرج، حقّق مع المخرجة والممثلة آنياس جاوي ـ رفيقة دربه في العمل حتّى النهاية، وفي الحياة لأكثر من عشرين سنة ـ أفلاماً هزلية اجتماعية عدّة، قام معظمها على الحوار، واصطبغ بأجواء المسرح، من حيث اكتفائها بأمكنة محدّدة، تتعاقب فيها الشخصيات وتتحاور، والأفضل القول إنّها تتشاجر وتسخر من بعضها بعضا ومن الحياة، في كوميديا حادّة، وفي هزل مُرّ، يكشف خبايا النفس الإنسانية، ويُستوحَى من مواقف حياتية يومية، محورها العلاقات الإنسانية: العائلة والصداقة والحبّ، ودائماً سوء الفهم الذي يسودها، والغموض الذي يشوبها، والإشكالات التي تُصاحبها.
جان ـ بيار بكري مولود في بو إسماعيل (الجزائر) عام 1951. أحبّ الفن السابع منذ صغر سنّه، حين كان يرافق والده إلى سينما المدينة، حيث كان يعمل في عطلة نهاية الأسبوع. منه، تعلّم التواضع واحترام الآخرين، مهما كانت مكانتهم الاجتماعية، وهذا تجلّى في أفلامه لاحقاً. إنسانيته وبُعده عن التشاوف، حيث "لا فرق بين رئيس للجمهورية والزبال"، كما كان يُكرّر والده، ساعي البريد. غادرت العائلة الجزائر ككثيرين بعد الاستقلال. كان يبلغ 11 عاماً. لكنّه، بسحنته السمراء الجذّابة، وعلاقاته، وحيويته في الكلام، وإشارات يديه عندما يتحدّث، بقي متوسطياً بامتياز.
تتابعت أعماله. له أكثر من ستين فيلماً، وعشرين مسرحية مع آنياس جاوي وغيرها. عمل مع آلان رينيه وآخرين، ونال جوائز عدّة، فأصبح أكثر من تلقّى جوائز "سيزار" للسينما الفرنسية، والوحيد الحاصل على أربعٍ منها للسيناريو: "سموكنغ/ لا سموكنغ" (1993) و"نعرف النغمة" (1998)، والفيلمان لرينيه، و"شَبَه عائلي" (1996)، الفائز عنه أيضاً بـ"سيزار" أفضل دور ثان، و"ذوق الآخرين" (2000) لجاوي. بالإضافة إلى جوائز أخرى من مهرجان "كانّ" وغيره.
أصبح جان بيار بكري أكثر من تلقّى جوائز "سيزار" للسينما الفرنسية، والوحيد الحاصل على أربعٍ منها للسيناريو
غادر بكري هذا العالم قبل أيام قليلة، بعد صراع طويل مع مرض السرطان. في "مكان عمومي" (2018) لجاوي، الفيلم الأخير الذي ظهر فيه، بدا مُرهقاً ونحيلاً، مع "شعر مستعار" (أشار إليه ساخراً في الفيلم) لإخفاء آثار العلاج. تغيّر شكله، لكن بقي النكِدَ المُحبّب، والغاضب من الجميع وعليهم. وحده كان يعرف كيف يقول، مُكشّراً ومُتذمّراً، حين يُطلب منه الابتسام لالتقاط صورة: "هذا ما أنا بصدده". أحياناً، كان يستاء من لصق هذه الصفة بأدواره: "لم أقلْ يوماً أنّي سأمثّل فقط أدوار الشخص المستاء"، كما صرّح لإذاعة "أوروبا الأولى"، مضيفاً: "الأمر ليس على هذا النحو. أنا أقرأ السيناريو. تُعجبني الشخصية، فأمثّلها. ربما تكون شخصيتي التي تجعلني مناسباً لأدوار كهذه، ويرى فيها الجمهور طبيعة خاصة بي". الجمهور أحبّه كثيراً.
لكنْ، هل لشعبيته تلك في فرنسا ما يُماثلها عالمياً؟
جان ـ بيار بكري ممثلٌ كبير ومشهور ومحبوب في فرنسا، لكنّه ـ على عكس كبار الممثلين الفرنسيين في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، ذوي الشهرة العالمية، كآلان دولون وجان ـ بول بلموندو ولينو فنتورا ـ لم يشتهر كثيراً عالمياً. خارج فرنسا، قليلون يعرفونه. رحيله أثار الانتباه إلى ذلك، عربياً على الأقلّ. فما السرّ؟
احتمالات عدّة يُمكن أنْ تُناقَش: لعلّ ذلك كامنٌ في مستوى السينما الفرنسية عامة، وعدم الاهتمام بها، إلى حدّ عدم مُلاحظة أفلامٍ جيدة لا تزال تُنتجها؛ أو تحوّلٌ في أساليب التوزيع، إذْ طغت سينما المجمّعات التجارية، وسادت على حساب صالات السينما الصغيرة والمستقلّة، وانتشرت كما تنتشر سلسلة المطاعم السريعة، التي تبيع إنتاجاً مُنمّطاً لجمهورٍ مُنمّط، كاسحة بذلك أيّ مكان يُمنح لإنتاجاتٍ سينمائية، يصعب معها توقّع ردود الفعل. لذا، يقلّ تدريجياً الجمهورُ "الوسط"، الذي يُقدّر السينما الشعبية لكنْ ذات المستوى الجيد، مقابل جمهور مغسول الدماغ، يكون غالباً شابّاً جداً. وإنْ وُجِد هذا الجمهور الوسط في عواصم كبرى، كباريس، لن يكون كافياً ليؤمّن شهرة عالمية لممثل، خارج الدائرة المحصورة.
يتعلّق الأمر، ربما، بتحوّلٍ في السينما الفرنسية نفسها، المبتعدة عن إنتاجٍ شعبيّ تتميّز به، ينتمي إلى الحركة والنوع البوليسي والرومانسي والفكاهي، الذي يعتمد المَقالب (لوي دو فونيس مثالاً). الهزل الفرنسي، الذي اشتهر به بكري، يعتمد على الحوار، وعلى نقدٍ اجتماعي صعب الإدراك لمن لا يعرف المجتمع الفرنسي خاصّة، والأوروبي عامة. الكوميديا ـ التي تعتمد على الشخصيات، وإيحاءات الممثلين، من دون واقعية اجتماعية، كأفلام دو فونيس، أو تلك الأحدث مع جيرار دوبارديو وبيار ريشار ـ اختفت تقريباً. تلك التي تتلاءم، على نحوٍ أسهل، مع جمهور عالمي.
السينما الفرنسية لم تعد تُنتج نجوماً معروفين خارج فرنسا، حتى وإنْ كانوا استثنائيين، كجان ـ بيار بكري
يُشار هنا إلى أنّ ممثّلين معاصرين كبار، من جيل دولون وبلموندو، غير مشهورين خارج أوروبا، كميشال بيكولي وفيليب نواري، لأنّهم لم يمثّلوا كثيراً أدواراً معولمة، تقوم على الكوميديا السهلة، أو على البوليسيّ. على عكس جيرار دوبارديو، الذي عرف، إلى جانب أدواره الجادة، كيف يوظّف حضوره الجسدي في الكوميديا السهلة، فبات نجماً عالمياً. ربما الأهم كامنٌ في تحوّل السينما الفرنسية، الذي يُمكن تفسيره (التحوّل) بأنّها (السينما الفرنسية) لم تعد تُنتج نجوماً معروفين خارج فرنسا، حتى وإنْ كانوا استثنائيين، كجان ـ بيار بكري. هذا ليس بسبب هبوط مستواها فحسب، بل أيضاً لهجرها النوع الشعبي، الذي تواجد فيه دولون مثلاً.
هذه الأسباب والاحتمالات كلّها لا تُفسّر تماماً كلّ شيء. ممثلو العصر الذهبي للسينما الفرنسية، في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته، كميشال سيمون وجان غابان، لم يتمتعوا بشهرة دولون وبلموندو وبريجيت باردو. هناك عقدان، غزا الأسلوب الفرنسي في السينما الشعبية خلالهما جمهوراً عالمياً. قبل ذلك، كانت السينما الفرنسية للفرنسيين، ولمحبّي السينما فقط. اليوم، عادت إلى هذا الوضع، لكنْ مع أفلامٍ أقلّ مستوى. يبقى التساؤل عن أسباب حصول هذا في ذلك الوقت بالذات، أيّ حين أنجز المخرجون الفرنسيون أفلاماً، التقت بعفوية مع ذوق الجمهور العالمي. لعلّه أيضاً ذوق الجمهور العالمي، الذي تغيّر اليوم.