يجهد مُحبّو راحلٍ، عند سماع نبأ وفاته، في استعادة لحظاتٍ، أو تذكّر أعمالٍ، أو نبش أقوالٍ، تُعيده إليهم في صفاء وداعٍ أخير. راحلون كثيرون يُحرّض موتُهم أناساً، يبلغ الحبّ فيهم مرتبة عشقٍ وتماهٍ، على استفاقةٍ من روتين يوميّ، فالموت فعلٌ إلزاميّ، والرحيل يوقف الزمن قليلاً، لفتح خزائن المتراكم عبر سنين واشتغالات.
في 17 يونيو/حزيران 2022، يُعلَن عن وفاة الممثل الفرنسي جان ـ لوي ترانتينيان، قبل أقلّ من 6 أشهرٍ بأيامٍ عدّة على احتفاله بعيد ميلاده الـ 92 (مواليد 11 ديسمبر/كانون الأول 1930). هذه لحظة يريدها محبّو الراحل إطلالة على تاريخٍ حافلٍ بشخصيات وأدوار ومواقف وحكايات وانفعالات، وإخراجاً لخبرياتٍ مُخزّنةً في ذاكرة أو صحف أو أشرطة أو كتب، عن علاقاتٍ وأحوالٍ غير مرتبطة بالسينما، وبصناعتها وأحوالها وتفاصيلها، فقط.
رحيل ترانتينيان، بعد عمرٍ مديدٍ في الحياة والسينما، يُثير تساؤلاً عن معنى كتابة رثاءٍ في رحيل شخصٍ مثله، يمتلك كمّاً من الأفلام السينمائية (له أعمال تلفزيونية مختلفة، ومشاركات عدّة كراوٍ في أعمال آخرين، وقراءات شعرية تمنحه صفة "صاحب أجمل الأصوات في السينما الفرنسية"، وصوتُه هذا يُستَعان به في دبلجةٍ فرنسية لأصوات ممثلين آخرين من العالم)، يصعب اختزالها في كلماتٍ، يُفترض بها أنْ تُوازن بين المناسبة الآنيّة للكتابة، والحسّ النقديّ، الذي يقول كثيرون بإلغائه في وداعٍ كهذا، وهذا غير سليمٍ.
مفاصل وتفاصيل تُصنَع في سيرة ممثّلٍ، تبدو كأنّها المُرادف الأهمّ لاشتغالاتٍ، تحتاج دائماً إلى قراءات نقدية، ويحثّ بعضها (إنْ لم يكن معظمها) على إعادة مُشاهدة. المحيط ببعض تلك الأفلام يرتبط بحياة يومية وعلاقات عاطفية وخبرياتٍ، يصحّ أنْ تكون "نمائم"، لكنّها تحافظ على موقعها، كفعلٍ مؤثّر في سيرة وعيشٍ. علاقاتٌ تبدأ في استديو، وتتحوّل ـ في كواليسه، غالباً ـ إلى ارتباط عاطفي، يتكرّر في تصوير أكثر من فيلمٍ، ويُصبح معروفاً في وقتٍ لاحق. بريجيت باردو بداية، "والله... خلق المرأة" (1956) لروجيه فاديم، مثلٌ أول. نادين ماركان، شقيقة سيرج وكريستيان، الصديقين الحميمين لفاديم، تُصبح زوجته بعد لقاءٍ بها عام 1958، مثلٌ ثانٍ. "القطار" (1973)، لبيار غارنييه ـ دوفَّر، يوفّر مناخاً ملائماً لعلاقة حبّ مع رومي شنايدر، تنتهي سريعاً (3 أشهر)، تاركةً الممثلة الألمانية الفرنسية في خيبة وألمٍ وارتباكٍ، مثلٌ ثالث.
يساريّ الهوى، يجد نفسه شيوعياً في شبابه، من دون التزامات صارمة، فالسياسة غير مُثيرة له إطلاقاً. عام 2012، يُعلن أنّه ضد السلطة والسياسة، وأنّه يرى نفسه فوضوياً: "فكرة الفوضوية تُعجبني كثيراً، رغم أنّي مُدركٌ بأنّنا لن نُنقذ العالم بها" ("لا بروفانس"، 6 يناير/كانون الثاني 2012؛ "تيليراما"، 20 يناير/كانون الثاني 2012). أيكون تفكيرٌ كهذا دافعاً له إلى تمثيل أدوارٍ في أفلامٍ مُصنّفة "سياسية"، وملتزمة موقفاً ضد الفاشية والديكتاتورية؟ لن تكون الإجابة مهمّة، فالتمثيل مهنة، وخيارات الممثل لأدوار/شخصيات تنبثق، غالباً، من حساسية ذاتية إزاء المعروض عليه، وللسيناريو دورٌ، كما للمخرج. ستينيات القرن الـ 20 تصنع حالةً، تختلط فيها السياسة بالأفكار والنظريات والحراك الميدانيّ، والنتاجان الفني والثقافي إحدى مرايا تلك الحالة، في عالمٍ يعيش تبدّلات جذرية في التفكير والإحساس والعلاقات، انطلاقاً من رغبةٍ عارمة في تحرير الجسد والروح من أغلال قمع ومنع وحصار.
أبرز تجربتين لترانتينيان في "الأفلام السياسية" (إنْ يصحّ وصفٌ كهذا لفيلمين يُعتبران من أجمل إنجازات السينما الفرنسية)، تتمثّلان بـ"الصراع في الجزيرة" (1962) لألان كافالييه، و"زد" (1969) لكوستا ـ غافراس. يتشابه الفيلمان في تناولهما السينمائيّ أحوال عالمٍ مضطرب، وصراعاتٍ يندرج معظمها في "الحرب الباردة"، ويشتركان في أنّ الركيزة الدرامية الأساسية متمثّلة بالاغتيال السياسي، الذي ـ في حالتي الفشل والنجاح ـ يفتح منافذ كثيرة، بحثاً في أحوال أناس وبيئاتٍ وارتباكات وعلاقات وانفعالات.
هذا جزءٌ من سيرة. لكنْ، هناك جزء أقسى، لن يتحرّر منّه ترانتينيان حتى وفاته، يتمثّل بمَقتل ابنته ماري (1 أغسطس/آب 2003). الحكاية معروفة. الابنة الممثلة (1962 ـ 2003) في صدام عنيف دائم مع شريكها برتران كانتا، المغني والمؤلّف الموسيقيّ، الذي يُعنّفها جسدياً (أقلّه في الأشهر الـ 18 قبل الحادثة الأخيرة)، إلى حدّ التسبّب بمقتلها.
تقول زوجته السابقة نادين، والدة ماري، إنّه غير متعافٍ أبداً من "الموت الوحشي" لابنته. هذا قاسٍ. هذا تعطيلٌ لحياةٍ وعيش. الأفلام، المُنجزة بعد تلك اللحظة، قليلةٌ. النمساوي ميشائيل هانكه وحده يتمكّن من إقناعه بالتمثيل في فيلمين له، "حبّ" (2012) و"نهاية سعيدة" (2017)، وفي إشراكه في وثائقيّ بعنوان "ميشائيل هانكه: المهنة مخرج" (2013) لإيف مونْمايور: "ستنتحر بعد الفيلم، في الشهرين المقبلين، إذا أردتَ (هذا)"، يقول له هانكه، الذي يكتب "حبّ" وهو يُفكّر به (مقالة لفرنسوا ـ غييوم لورّان، الموقع الإلكتروني للمجلة الأسبوعية الفرنسية لو بوان"، 17 يونيو/حزيران 2022). لترانتينيان، في الفترة نفسها، أدوارٌ قليلة، سيكون للفيلمين الأخيرين عنوانان، يصلحان، ربما، لاختزال تلك السيرة: "أجمل أعوام حياةٍ" (2019) لكلود لولوش، و"نُصوِّر كي نعيش" (2022)، وثائقيّ للولوش أيضاً.
سيرته، في الحياة والمهنة، قابلةٌ لكلامٍ كثير. صانع نبيذ، وهاوي سباق سيارات، يؤدّي أدواراً في أفلامِ تاركي بصماتٍ تغييرية في سينما، تمتلك حساسية المعاينة الواقعية لحالاتٍ وانفعالاتٍ ومشاغل.
تُرى، كيف يعيش فردٌ، بعد إدراكه أنّ الموت جاهزٌ، وإنْ يَطُل اللقاء به قليلاً؟