"أجيال" سينمائية عدّة تُدين لجان ـ لوك غودار بأشياء كثيرة، في صناعة صورة، والتفكير في احتمالاتها، والتأمّل في مكوّناتها وانشغالاتها وتفاصيلها، والتفاصيل مستلّة من وقائع عيشٍ، واختبار لغةٍ، يُراد لها أنْ تمنح الصورة تجديداً في قول وشعور.
رحيله بإرادته (يُنهي حياته طالباً المساعدة على الموت، "ليس لأنه مريضٌ بل لأنّه مُنهكٌ"، بحسب قولٍ لقريبٍ له منشور في "ليبراسيون" الفرنسية) في 13 سبتمبر/ أيلول 2022، قبل أقلّ من 3 أشهر على احتفاله بعيد ميلاده الـ92 (13 ديسمبر/ كانون الأول)، يستدعي قولاً كهذا، إذْ يندر أنْ يكون هناك عاملٌ/عاملة في الفن السابع، في الأعوام الـ65 الفائتة على الأقل، غير معنيّ به، سينمائياً ومفكّراً ومناضلاً، ومكافحاً من أجل كشف غير المرئيّ في الحياة والموت والهوية والعلاقات، كما في لغة الصورة، أو كتابها ("كتاب الصورة"، 2018).
وهذا غير مُتعلّق بمحبّيه أو عشّاق نتاجاته وأقواله وفكره فقط، فهناك من يبتعد عنه، قليلاً أو كثيراً، من دون أن يتنصّل من تأثيرٍ ما يصنعه غودار فيه، إنْ يكن المرء سينمائياً أو سينيفيلياً حقيقياً.
تاريخ السينما
عمره المديد، في الحياة والسينما (أيُمكن، حقّاً، فصل أحدهما عن الآخر في سيرته؟)، لن يحول دون انبثاق حزنٍ وألمٍ وقلقٍ، في نفوس أناسٍ مهمومين بالسينما وعوالمها واشتغالاتها، عند شيوع نبأ رحيله. ناشطون/ناشطات في وسائل التواصل الاجتماعي ينشرون تعليقات مقتضبة عنه، وصُوراً وأقوالاً له، وهم/هنّ ينتمون إلى فئات عمرية، تتيح لها عيش تجربة أنْ يُعاصِر أحدهم/إحداهنّ زمناً، تكون لغودار فيه مساهمات شتّى، تسم هذا الزمن وتُدينه وتُفكّكه وتواجهه، وتُساجله دائماً، من دون تعبٍ أو تردّد أو تبريرٍ لانسحابٍ أمامه، وغودار غير مُنسحبٍ أبداً، لما فيه من توقٍ دائمٍ إلى مشاكسته ومعاندته.
أحد أجمل عناوين الرثاء، المنشورة في مواقع إلكترونية لصحفٍ ومجلات غربيّة، يظهر في نصٍّ لديدييه بِرون، في "ليبراسيون" الفرنسية: "موت جان ـ لوك غودار، تاريخ السينما" (13 سبتمبر/ أيلول 2022). هذا لن يكون تفصيلاً عابراً، أو انعكاساً لمرثيّة انفعالية تطلبها لحظة إعلان رحيله. فربط "تاريخ السينما" بموت غودار متأتٍ من صيغةٍ حاضرةٍ في فنّ الصورة، تقول إنّ الرجل فاعلٌ أساسيّ في صناعة هذا الفن، وكتابة تاريخه. بل أكثر من ذلك: أنْ يكون غودار نفسه تاريخاً للسينما، بكل أفعاله ومشاغباته وحيويته، ونظرته إلى اللحظة وما وراءها وما فيها، وبكل انغماسه في أعماق لغةٍ، يُتقن تصويرها أكثر مما يعرف كثيرون/كثيرات كتابتها. لكنْ، "تاريخ السينما"، بكلّ بساطة، فيلمٌ له، ("تاريخ (تواريخ) السينما"، 1988) يتناول أسئلة التاريخ والفن والثقافة والحياة.
في المقابل، تعتمد "لو موند" عنواناً بسيطاً للغاية، في مقالة جاك ماندلبوم: "المخرج جان ـ لوك غودار مات". لكنّ جملةً في بداية المقالة تختزل شعوراً وتفكيراً جماعيين: "لن يذهب وحده. مثل الموت الاستثنائي (لكثيرين/كثيرات)، يجرف معه شيئاً مُقْتَلَعاً من الوعي الجماعي". يُضيف ماندلبوم أنّ أول المُقْتَلَع يتمثّل بـ"خسارة يُسبِّبها أحد أعظم السينمائيين في الأوقات كلّها، مع تلك الصدمات الكهربائية للصُور والأصوات، التي تُعيد أعمالُه تشغيلَها في ذاكرة مُعاصريه، مع سعةٍ دولية، ومجال تأثير لا سابق له، قلّة من المخرجين الفرنسيين متمكّنةٌ من تحقيقه".
"في واجهة الموجة الجديدة، يُثوِّر غودار الفن السابع بأفلامٍ مستفزِّة، تكون غالباً قاسية، لكنّها دائماً رائعة ومُثيرة للمشاعر". بهذا، تُقدِّم Le Temps، الصحيفة اليومية السويسرية، خبر رحيله، صباح إعلان الخبر نفسه. أنطوان دوبلان، كاتب المقالة/ الخبر، يقول التالي: "للفلك غاليله، وللعلم داروين، وللسينما غودار".
كلامٌ كهذا يُلخِّص سيرة رجلٍ، يدخل التاريخ سريعاً، منذ أول فيلمٍ يُنجزه عام 1959، بعنوان A Bout De Souffle: "أصوّر الفيلم مع اعتقادٍ بأنّي أنجز شيئاً محدّداً للغاية. أحقِّق ثريلر، فيلمَ عصابات. عند مشاهدتي إياه للمرّة الأولى، أُدرك أنّي منجزُ شيءٍ مختلف للغاية"، يقول غودار لاحقاً (Debordements، في 5 سبتمبر/أيلول 2012). فيلمٌ كهذا يحفر عميقاً في فردٍ واجتماع ومشاعر وعلاقات، ويعكس جوف خرابٍ وعنف، في انبثاقهما وتجلّياتهما.
اللغة والسينما
اللغة سينمائيةٌ. أبعادها ومكوّناتها وهواجسها منسوجةٌ بأدوات معرفةٍ وإبداع، يصعب الفصل بينها عند مشاهدة نتاجاتٍ له. هذا يظهر أيضاً في تفسيرٍ يختصر حالةَ تشريدٍ لشعبٍ، كي يتمكّن شعبٌ آخر من امتلاك مكانٍ ليس له. تفسير يجمع السينما بالحياة والانتماء والهوية والاجتماع، إذْ يقول جملةً باقيةً إلى الآن كمرجعٍ في تحديد معنى النوع البصري في الإنتاجات السينمائية، وواقع عيشٍ مستمرٍّ، بشكلٍ أو بآخر، إلى الآن. ففي تحليله للتناقض، "المصنوع من الرأي وضدّه، يُصبح هناك رأيان"، إذْ بدلاً من القول إنّ هناك تناقضاً/تعارضاً (بين مسألتين/رأيين)، نقول إنّ هناك رأيَين".
الأهمّ كامنٌ في اللاحق على هذا، بتقديمه المثل التالي: "عام 1948، يمشي اليهود/الإسرائيليون على المياه باتّجاه الأرض الموعودة. الفلسطينيون يمشون في المياه نحو الغرق". يُشبِّه هذا بالقول إنّ هناك "صورةً" في مقابل "ضد الصورة". يُكرّر التشبيه أكثر من مرّة، قبل إعلانه أنّ الشعب اليهودي يلتحق بالروائي/الخيال، والشعب الفلسطيني يلتحق بالوثائقي.
هذا غير عابرٍ. هذا جوهر حكايةٍ، تستمرّ تفاصيلها، يومياً، منذ 74 عاماً. الروائيّ، في السينما والأدب، منبثقٌ من خيالٍ، وإنْ يستند، غالباً، إلى وقائع وحقائق. الفلسطينيون أكثر واقعية وحقيقةً، لانضمامهم، في تلك النكبة (واللاحق عليها)، إلى الوثائقي، أي التوثيق، وإنْ يتّخذ الوثائقي من الروائي/الخيال البصري، في أزمنةٍ لاحقة، ما يُعينه على ابتكار صُورٍ سينمائية أجمل وأعمق وأهمّ. تصنيفه هذا نابعٌ من مرارة ما تحتويه صورٌ فوتوغرافية، يتأمّلها غودار في نُطقه تشبيهاً كهذا. أهذه مرارةٌ تلمّ به إزاء واقع؟ هذا غير مهمّ، فالأهمّ كامنٌ في تنبهٍ جليّ إلى المدى العميق للتشابه بين شعبين ونوعين سينمائيين. ورغم أنّ التساوي بين النوعين حاصلٌ سينمائياً، مع اختلافٍ في أشكال الاشتغال وصُوره وجمالياته (والنوعان يصبّان، أخيراً، في فنّ السينما)، ينعدم وجود تساوٍ بين شعبين، يحتل أحدهما بلد الثاني، فيطرده من جغرافيته، محاولاً طرده من تاريخه أيضاً.
قول غودار هذا يُثير تفسيراتٍ، الأبرز بينها براعة ابتكاره تشبيهاتٍ لقول فرقٍ شاسعٍ بين شعبين، ينتمي أحدهما إلى الخيال، لما في نصّه من أساطير وحكايات وتاريخ محمَّل باضطهادٍ وعزلاتٍ (قبل أنْ يتفوّق بعض هذا الشعب اليهودي في الاضطهاد والعزل)؛ ويتمثّل الآخر بالتوثيق، فـ"الوثيقة" ثابتةٌ وحقيقية، والتوثيق لعبة سينمائية لتبيان الثابت والحقيقي.
ثنائيات وتشابهٌ ووقائع
رحيل غودار يُحرِّض على تفسيرٍ لجملةٍ له، مع الإشارة إلى أنّ مضمون قوله هذا واضحٌ من دون تفسير. رحيله يتطلّب كتابة مهنيّة، ينقصها الكثير، لوفرة إنجازاته وأفكاره وهواجسه وتاريخه. يقول إنّ طريقته في صنع الأفلام متشابهةٌ مع ما يفعله "موسيقيان أو 3 من موسيقيي الجاز"، يُضيف: "نمنح أنفسنا موضوعاً، نعزفه، ثم كلّ شيءٍ ينْتظم" ("مقدّمة لتاريخ حقيقي للسينما"، الجزء الأول، منشورات ألباتروس، باريس، الطبعة الأولى، 1980).
هذا وحده كافٍ لتحليلٍ، يستند إلى أفلامه، وإلى ما فيها من نبضٍ وحياةٍ وتحريضٍ دائم على بحثٍ حثيث عمّا فيها من تساؤلات وإشارات. مفاصل كثيرة سيكون شاهداً عليها، ومشاركاً في صنعها، أو صانعها. مثلٌ على ذلك؟ النقد السينمائي وتجربة "دفاتر السينما" (1950 ـ 1959)، الموجة الجديدة (بين نهاية خمسينيات القرن الـ20 ونهاية ستينياته)، "أيار 68"، مفهوم المهرجان السينمائي، معنى الجوائز، لغة الصورة (هذه، وحدها، تحتاج إلى دراساتٍ ونقاشات)، فلسطين/إسرائيل، العرب وعلاقتهم بالصورة (كتاب الصورة)، علاقاته العاطفية، اشتغالاته الفنية والتقنية، الممثل بالنسبة إليه.
رغم هذا كلّه، يندر وجود فيلم روائي يتناول سيرته أو اشتغالاته أو هواجسه، في مقابل لقاءات معه مُصوَّرة. لعلّ الفرنسي ميشال هازانافيسيوس يبقى الوحيد (ربما) الذي يروي شيئاً من تلك السيرة، مقتبساً رواية "بعد عام" (2015)، للفرنسية آن فيازمْسكي، زوجة غودار (1967 ـ 1970)، في Le Redoutable، المعروض للمرة الأولى دولياً في المسابقة الرسمية للدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كانّ" السينمائي. فيلمٌ يقتطف حكايةً من سيرة رجل (لوي غاريل)، سينمائيّ ومناضل ماويّ، زمن الحركة الطالبية في فرنسا (أيار 68)، وعلاقته بامرأته مؤلّفة الكتاب، والعالم الذي يشهد تبدّلات جذرية في شؤون كثيرة.
فيلمٌ مُثير لاهتمام مشاهدين/مشاهدات، معنيين بغودار، وبتلك الحقبة، وبميله الثقافي/السياسي. ماري ـ نويل تْرانْشان تكتب ("لو فيغارو"، 12 سبتمبر/ أيلول 2017) أنّ هازانافيسيوس يُصوِّر غودار بـ"روح الدعابة"، في "مزيجٍ من السخرية والتعاطف"، مُشيدةً بأداء غاريل. بينما ديفيد فارو ـ في مقالة له تعتمد تحليلاً سياسياً، منشورة في Controverses (13 سبتمبر/ أيلول 2017)، المجلة النقدية الشيوعية ـ يرى أنّ "وراء الأجواء الكوميدية، يُغذّي الفيلم مناخاً من زمن معاداة ـ 68".
كاتبة الرواية، أي زوجته في الأعوام القليلة الأخيرة من ستينيات القرن الـ20، ستكون إحدى أبرز ممثلي/ممثلات "الصينية (La Chinoise)"، الذي يُنجزه غودار عام 1967: تجسيدٌ لأحوالٍ يسارية في فرنسا والعالم، ولقاء يجمع 5 أشخاصٍ، لكلّ واحد منهم التزام فني ومهني مختلف عن الآخر، ونقاشاتٌ تكاد تكون انعكاساً لغليان حاصل حينها، كأنّه إعلانٌ مسبق عن حاجة إلى ثورة وتغيير.
الـ"إشكالية" التي يطرحها هازانافيسيوس تكاد تُشبه شخصية جان ـ لوك غودار، المليئة بإشكالياتٍ جمّة في طروحاتها وأسئلتها. لوي غاريل منسجم في أداءٍ، يبلغ مرتبة باهرة في وضع غودار أمام كاميرا، ترغب في سرد فصلٍ من سيرته؛ وستايسي مارتن بارعةٌ في ارتباكاتها وعشقها ونزقها وقلقها ومتاهاتها، كامرأة (آن فيازمْسكي) مرتبطةٍ بسينمائيّ، لن يكون أقلّ ارتباكاً وعشقاً ونزقاً وقلقاً ومتاهاتٍ منها. فيلمٌ يُصبح شهادةً، تتزاوج فيها، رغم كلّ شيءٍ، جمالية الصورة السينمائية باستعادة لحظةٍ تاريخية من خلال شخصيّة، سيكون لها دورٌ أساسيّ في انقلاباتٍ وتغييراتٍ.