في التاريخ الفني، قد تشتهر الأغنية بأكثر مما يشتهر المغني، حين تجتمع عدة عوامل تمنح العمل قدراً استثنائياً من الانتشار، لم يعتده صاحبه في أعمال سابقة. ذلك ما حدث مع المطربة الشعبية المصرية، روح الفؤاد، التي حققت أغنيتها "سوق بينا يا اسطى على الكورنيش" جماهيرية كاسحة، وتغنى بها الكبار والصغار، من دون أن تحقق مؤديتها نفس القدر من الجماهيرية، وإن بقيت قادرة على الاحتفاظ بمكانتها في عالم الغناء الشعبي النسائي، ومنافسة مطربة بوزن بدرية السيد، أو الوصول بصوتها إلى الإذاعة، وشارات المسلسلات الدرامية، بل وإحياء الحفلات على مسارح عواصم غربية، مثل لندن وباريس. ولدت روح الفؤاد ونشأت في أسرة تمتهن الفن؛ فأحد أشقائها يعزف على الناي، والآخر يضبط الإيقاع، وابنة عمها سعاد منصور تحترف الغناء في الأفراح، قبل أن تتحالفا فنياً، بتكوين ثنائي اشتهر في الإسكندرية وإذاعتها أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات.
تلك القماشية الصوتية
ليس كل مطرب أو مطربة يقدر على أداء الغناء الشعبي، لأن هذا اللون يحتاج إلى قماشة صوتية تختلف عن تلك التي يحتاجها الغناء الكلاسيكي. لا يحتفي الغناء الشعبي بصوت ناعم يفيض رقة ورومانسية، بل قد تكون "الخشونة" مفتاحاً وسرّاً أساسياً من أسرار اقتراب المغني أو المغنية من جماهير أعرض. جماهير تشعر بأن هذا الصوت ينبع من مصادر قريبة منها، ولا يستعلي عليها بثقافة أو تعليم أكاديمي. وكان لروح الفؤاد حظ وافر من من تلك القماشة الصوتية، التي قد تلتبس أحياناً بصوت الرجال، أو تكاد تتطابق مع صوت بائعات ينادين على بضائعهن في حارة قديمة أو سوق شعبي من أسواق الدلتا.
لا تسعف شبكة الإنترنت ولا مواقعها الموسيقية من يبحث في رحلة روح الفؤاد الفنية، والمعلومات القليلة والمتكررة أغلبها تتعلّق بحياتها الشخصية، وإن كانت بعض جوانب هذه الحياة ترتبط ارتباطاً وثيقاً ومؤثراً بمسيرتها مع الغناء الشعبي. روحية منصور، ولدت في عام 1954 في مدينة كفر الزيات في محافظة الغربية، وتزوجت من المطرب الشعبي المعروف، الريس حفني أحمد حسن، ثم انفصلت عنه بعد أقل من عامين، لكنها ظلت تعمل معه في إحياء الليالي. وبعد رحيله، انتقلت إلى الإسكندرية في أوائل السبعينيات، لتتزوج من الزجال الشهير أمين قاعود، الذي اختار لها اسمها الفني اللافت، روح الفؤاد، وأمدها بعدد كبير من نصوص أغانيها. وإذن، تبقى سيرتها الفنية مسطورة عبر ما خلفته من أغنيات ومواويل بلدية، كان لها جمهورها ومحبوها لعدة عقود.
يا بلاش
كان فن الموال من أهم أبواب شهرة روح الفؤاد وانتشارها بين الطبقات الشعبية، التي دائماً ما وضعت هذا القالب في مكانة خاصة، ورأته معبراً عن أفراحها وأحزانها وعن تجارب الحياة، وخلاصات الحكمة من هذه التجارب: "قالوا تحب القمر.. أنا قلت ما استغناش.. قالوا تحب السهر.. أنا قلت مش ببلاش.. خد الأصيل ينفعك.. أما الخسيس ده بلاش.. خسيس ومن غير تمن.. يبقى التمن غالي.. أصيل وغالي التمن.. قالوا الجميع يا بلاش". ينساب صوت روح الفؤاد بهذا الموال الشعبي فيقع فوراً في قلوب جماهير تكاد تقدس هذا اللون من الكلمات والأداء. بهذا إذن، أمسكت روح الفؤاد بخيوط الموال، ونسجت منها بساطاً ممهداً نحو الشهرة والرضا الجماهيري.
ومن مواويلها الشهيرة: "طول ما اللسان حلو يرفع من قيمة أهله.. أصل اللسان الردي بيقل من أهله.. قريب ما عندوش آداب غريب ما بين أهله.. طول ما الكمال سكتك تملك قلوب الناس.. يا غريب بالأدب صبحوا الجميع أهله". وأيضاً: "قلبي السليم انجرح.. جبت الطبيب يداويه.. قالي ده جرح الهوى ما لوش دوا يشفيه.. قلت دوايا ومنايا يا حبيب روحي.. قالي طبيبك حبيبك بس فين ألاقيه". لم تكن روح الفؤاد تتفنن نغمياً في أداء تلك المواويل، وإنما كان جُل اعتمادها على المصداقية التي يضفيها صوتها على الكلمات والمعاني. كانت قماشتها الصوتية النادرة تمثل رأسمالها الأكبر.
بنات المنصورة
ومع المواويل، قدّمت روح الفؤاد عشرات من الأغنيات الشعبية، التي وجدت رواجها عبر الكاسيت أواخر السبعينيات وخلال سنوات الثمانينيات. وقد صدرت أغنياتها في مجموعتين، أخذت أولهما عنوان "دنجا دنجا" والثانية، عنوان "الحلواني"، وقد كتب معظم هذه الأغنيات زوجها الزجال أمين قاعود، بل إنه لحن بنفسه بعضاً منها. لكن كان لآخرين من زجالي الإسكندرية وملحنيها نصيب من هذه الأغنيات، ومنهم الزجال أحمد ملوخية، والملحنين محمد شبل، وأحمد برغوت، ومحمد المسيري، ومحمد الحماقي. ومن أشهر هذه الأغنيات: "ع الفُلاية"، و"رقص العصفور"، و"ادلع يا عريس"، و"دقت ع الراس طبول"، و"النبي على قلبك دلعني".
والحقيقة أن الشاعر والزجال أمين قاعود فهم جيداً طبيعة روح الفؤاد كما فهم مزاج جمهورها، وعرف كيف يخاطب هذا الجمهور بما يناسبه من كلمات ولحن وإيقاعات نشطة. ويمكن أن نمثل لكلماته بأغنية "احنا بنات المنصورة"، التي حققت انتشاراً جيداً بسبب موضوعها، الذي يتكلم عن جمال بنات مدينة المنصورة، وكذلك فكرتها التي جعلت الحديث عن هذا الجمال يأتي على لسان بنات المدينة: "احنا بنات المنصورة.. آه يا ولا.. جايبين المنديل على القورة.. آه يا ولا.. لأصورك واخد الصورة.. والبت تحب الولا.. والهوى ميال". ومن هذا الصنف الذي يستهدف فيه قاعود قطاعات جماهيرية معينة أغنية "الفلاح" حيث يقول: "يا التفاحة ويا التفاح.. طل عليا الحلو وراح.. مهما تقولوا ومهما تعيدوا.. قلبي اختاروا خلاص وارتاح.. ناسب الكمسري؟ لأه.. يبقى العسكري؟ لأه.. عبده السمكري؟ لأه.. أنا ما أخدش إلا الفلاح".
لكن جمهور روح الفؤاد وضع كل هذه الأغنيات في كفة، وأغنيتها "دنجا دنجا" في كفة وحدها. كلمات ولحن وروح وأداء سكندري بامتياز: "سوق بينا يا اسطى على الكورنيش.. ناكل درة ونشرب مانجا.. وواحدة واحدة إن شا الله تعيش.. مشي الحصان دنجا دنجا.. ما تاخدنا دنجا دنجا.. ومشي واحدة واحدة". كانت هذه الأغنية أعظم هدايا الزوج أمين قاعود، نصاً ولحناً، فقد حققت انتشاراً كبيراً، وجماهيرية واسعة فاقت جماهيرية مؤديتها.
مبروك مبروك
في عام 1991، اشتركت روح الفؤاد بأغنية "مبروك مبروك" في فيلم "نور العيون"، من إخراج حسين كمال. الأغنية من كلمات لعبد الرحيم منصور، ولحن لبليغ حمدي. كما تعاونت مع منير الوسيمي وهاني مهنا الذي أنتج لها إصداريها الشهيرين وصحبها بالعزف في كل أغنياتهما. واستمرت في الغناء حتى اعتزالها في عام 2008، ثم عاشت بعيداً عن الأضواء حتى رحيلها عام 2015، بعد أن استطاعت أن تصل بصوتها إلى مسارح كبرى في عدة عواصم أوروبية، وأن تسطر اسمها إلى جوار اسم خضرة محمد خضر، وجمالات شيحة، وسيدة غريب، وفاطمة سرحان، وبدرية السيد.
لكن آخر ما تغنت به تمثل في كلمات كتبها الزجال مصطفى النمر، تشبه شخصيتها، ومواويلها التي كانت تتردد في أرياف الدلتا: "شفت الهموم أنا يا حلو على إيدك... مرت شهور السنة ما شفت يوم عيدك... لا عايزة أشوفك يا حلو ولا أعرف مواعيدك... لو كنت بستان عنب تحرم عناقيدك".