ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بدعوات لمقاطعة علامة الأزياء الإسبانية، زارا، بعد نشرها حملة إعلانية للأزياء، أوحت لكثيرين بأنها مستوحاة من أجساد الغزيين المقتولة والمكفّنة بالأبيض. الحملة التي واجهت كثيراً من الانتقادات، دفعت الشركة إلى حذف بعض الصور من منصاتها الرسميّة، ونشر بيان أسفت فيه لـ"سوء الفهم" الذي حصل.
مكونات الصورة لا يمكن إنكارها، خصوصاً أن الأكفان البيضاء لم تكن ضمن ثياب العارضات، بل ضمن الديكور، يحملنها ويتبادلنها، ناهيك عما يشبه الورشة/المكان المدمر الذي حصلت فيه جلسة التصوير. وهنا المفارقة، إذ تبدو الصور كأنها من إنتاج الذكاء الاصطناعي، تقوم على مزج عناصر متنافرة، لتبدو الصور وكأنها تحاكي من بعيد من دون إتقان للسياق. مجرد جمع عناصر تتآلف فقط في الخوارزمية. وهذا ما يبرر حملة المقاطعة، كون الإعلان ليس سوى محاولة لتسليع واستهلاك المأساة التي ما زالت قائمة.
بالطبع، هذه ليست المرة الأولى التي تهين فيها "زارا" الشعب الفلسطيني. في عام 2021، أهانت مديرة التصميم عارض أزياء فلسطينياً. لا يستغرب الأمر من الشركة، الشهيرة بالتهرب الضريبي، مسؤوليتها عن عمالة الأطفال. لكن المريع هو الحال الذي وصلت إليه صناعة الأزياء السريعة، والرغبة بإنتاج "الجديد"، حتى لو كان ذلك على حساب ما هو رائج، وإن كان مجزرة.
ناهيك عن استضافة فرع "زارا" في إسرائيل لإتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، الذي يوزع السلاح على المستوطنين. وهنا لا بد من سؤال: ما حجم السوق الإسرائيلي الذي لا بد من الحفاظ عليه إلى حد استقبال وزير مدان مرات عدة بسبب تطرفه؟
مفهوم "الرائج" هو بالضبط ما يحرك هذه الصناعة التي تراوح بين ابتداع "الترند" وبين ملاحقته. المعادلة التي أصبحت صعبة التحقيق في زمن الخوارزميات، وتملي ماهية الجديد والمهم على المتابعين، ما يحوّل صناعة الأزياء ليس إلى شكل استهلاكي وحسب، بل إلى ماكينة تقتات على كل ما هو رائج، سواء كان مجزرة، أو أغنية، أو طبق طعام. كل ما هو رائج، يمكن ارتداؤه.
التهام ماكينة الرأسمالية ما هو رائج، اتضح أيضاً أثناء الثورة السورية، وحملات الأزياء التي تشبه ثياب اللاجئين الممزقة، أو ستر النجاة الحمراء، أو حتى الأزياء التي تتحول إلى خيم. هناك نوع من الابتذال للمأساة، حتى لو كانت النوايا طيبة وهدفها خيري، فهناك ما يثير الحنق في اختزال المأساة في مُنتج يخلق نوعاً من الطمأنينة أو الرضا، يمكن للشركة بعده أن تقول: "قمنا بما علينا والآن لننتقل إلى شأن آخر".
الوحش الرأسمالي لا يعرف حداً، يلتهم كل ما يراه أمامه. الربح هنا ليس إلا مجرد شأن هامشي. الأهم هو مواكبة إيقاع العصر، ذاك الذي تصنعه الأزياء نفسها. تقول إحدى النظريات إن أكثر الناس مواكبة للعصر هم الكوميديون وعارضو الأزياء. هم الفئة الأكثر انتشاراً، ويحملون معهم ليس فقط قيم الشركة، بل قيم العصر. وهنا المفارقة المأساوية، قيم العصر الآن، هي الاحتفاء بالمجزرة، تلك التي نشهدها كل يوم بالبث المباشر.
المفارقة الثانية تتعلق بالثياب نفسها، فكما تحولت الكوفية الفلسطينية إلى رمز يثير الرعب في أوروبا، ها هي شركات الأزياء السريعة تروّج للأكفان، وكأن الاحتفاء بالموت الفلسطيني علامة لا بد من الترويج لها وتحويلها إلى صرعة متداولة. هناك عملية مصادرة حرفيّة للرموز الفلسطينية وإعادة تعريفها، الأمر الذي ينتمي إلى إبادة الذاكرة، ومنع استعراض الهوية الفلسطينيّة.
وهنا نرى أنفسنا أمام سؤال: أليس من المفترض بعصر الهويات أن يحتفي بهذه الرموز ويرسّخها ويسمح باستعراضها؟ أم المسموح فقط هو علامات الموت والذكرى من أجل الحفاظ على صيغة الإبادة، وأن الفلسطينيين ليسوا إلا حكايات عن موتى؟