لطلبة كلّية الطب قسَم، ذو أوجه مختلفة باختلاف البلاد والأديان: "أقسم بالله العظيم، أن أراقب الله في مهنتي، وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، وفي كل الظروف والأحوال، باذلًا وسعي في استنقاذها من الهلاك والمرض والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم، وأستر عورتهم، وأكتم سرَّهم، وأن أكون على الدَّوام من وسائل رحمة الله، باذلًا رعايتي الطبية للقريب والبعيد، للصالح والخاطئ، والصديق والعدو".
استوحي هذا القسم من قَسم أبقراط: "... لن أُزوِّدَ أحدًا بالسم، وإن طُلِبَ مني ذلك. ولن أبادر بالإشارة إليه... أدخل البيوت لمنفعة المرضى، مبتعدًا عن أيِّ إساءةٍ واستغلال، ومبتعدًا عن إغواء النساء والفتيان، أحرارًا كانوا أم عبيدًا... وألَّا تُقْبَلَ لي شهادة، وأن تصبح حياتي تعيسة إذا ما كسرْتُ هذا القَسَم". من يتأمّل هذين القسمين، يتوثَّقُ أنَّ المريضَ، في كلِّ حالاته وأوضاعه، أمانةٌ من الواجب صونُها والحفاظ عليها، مهما حصل.
لكن، ماذا لو امتلك الطَّبيبُ شخصيَّةً نرجسية، متسلِّطة، مُسيطِرة، تهوى التحكم فيمن هم أضعف؟ ماذا لو قرَّر هذا الطبيب المُختلُّ أن يحتالَ على الآخرين؛ ولا سيَّما النساء، مذ كان صغيرًا، مُحاطًا بحماية والدته، وغياب والده القسريِّ بحكم اكتئابه المُزمن ومن ثمَّ انتحاره، ماذا لو قرَّر أن يُحوِّلَ علاقاته بالنساء اللاتي يحطن به إلى ألعابٍ ذهنيَّة، ومناطق ألغام تستثيره ليقفز في كنه غموضها ويلعب، بعينين معصوبتين أحيانًا، متلذِّذًا بالتحرك ما بين الوهم والواقع والحلم؟
هذه هي الأفلاكُ التي يدور فيها مسلسل "ستون دقيقة"؛ الدراما النفسية والتشويقية، التي نُفِّذَتْ في تسع حلقات، وعُرِضَتْ على منصَّة "شاهد"، من بطولة السوري محمود نصر، والمصرية ياسمين رئيس، والسعودية فاطمة البنوي، ومن تأليف محمد هشام عبية، وإخراج مريم أحمدي. صُوِّرَ العمل في لبنان بصبغة وطابع مصريين، بحسب ما قالت مخرجة العمل.
عمل تضافرَتْ فيه عناصره الفنية والتمثيلية والدرامية، بغية مناقشة ثيماتٍ متنوعة، من أهمِّها: التحرش الجنسي، والاستغلال، والابتزاز، والعنف ضد المرأة، والتلاعب النفسي، والانتحار، والخيانة، ووصمة العار، والنرجسية، والاكتئاب، وغيرها من الأمراض النفسية.
يثبت مسلسل "ستون دقيقة"، في الدراما التشويقية التي يُقدِّمها، أنَّ المُتحرِّشَ متلوِّنٌ، ويمكن أن ينتمي إلى أيِّ زمرة أو خلفيَّة، بصرف النظر عن حالته الاجتماعية. ويصدف أن يكون شخصية مرموقة ومعتبرة؛ كأن يكون الطبيب النَّفسي؛ ذاك الوحيد الذي لا يُتوَقَّعُ منه أن يطعن أحدًا بسكِّين الغدر، على افتراض أنه الحامي والمرشد، غير أنه يفعلُها بمهارة الخبير والمتمرِّس؛ إذ إنَّ التَّحرُّشَ بمريضاته ديدنُهُ. هو أيضًا مريضٌ باضطراب السُّلوك. لكنه ليس كغيره من المرضى؛ فهو يقوم بفعل التحرش بكامل إرادته ودرايته بنرجسيته واضطراب سلوكه. لا يفعل شيئًا لإيقاف نفسه عن إيذائهنَّ. بل يجعل من مهنته ستارًا يسدله على فظائعه التي يقوم بها داخل غرفة لقائه بمريضاته. إحداهنَّ مُراهقةٌ في المدرسة تعاني من اضطهاد زميلاتها اللاتي يتنمَّرْنَ عليها فقط؛ لأنَّ الأنوثة لم تشقَّ طريقها إلى صدرِها بعد. وأخرى تعاني بُرودًا في علاقتها الحميمة مع زوجها بعد أن أصابها اكتئاب ما بعد الولادة. وثالثة تريد الحبَّ والاستقرار وتسعى لهما بإصرار، إلَّا أنها تفشل فيهما دائمًا، ولا تستمرُّ في أيٍّ من زيجاتها. ورابعة يصدف أن تكون متزوجة من رجل مهم، لا يُعرَفُ من هو بالضبط، غير أنَّ سلطته، وسطوته، وماله الذي يغدقه عليها بائنٌ ومرير. وخامسة يحدث أن تدخل مكتبه (فهو أستاذٌ أكاديميٌّ يُدَرِّسُ في الجامعة، أيضًا) لسؤاله عن شيء يتعلق بالمادة، فيراودها عن نفسها، لكنها تأبى.
ماذا لو امتلك الطَّبيبُ شخصيَّةً نرجسية، متسلِّطة، مُسيطِرة، تهوى التحكم فيمن هم أضعف؟
تختار تلك النسوة، بالقاسم المشترك (الطبيب) الذي يجمعهن، من دون أيِّ اتفاق أو حتى سابق معرفة، أن يلذن بالصمت الذي ينهش الرُّوحَ كلما انقضى يوم وحضر آخَر. لكنَّ محاولة انتحارٍ فاشلة، تُعبِّدُ طريقَ الإدراكِ والفهم أمامَ زوجة الطبيب، فتشقُّهُ مُحاوِلَةً جمع الخيوط، إلى أن تذهب في رحلةِ كشفٍ لجوانيَّته ودواخلِهِ، وتضبطُ أثناء ذلك عدَّادَ الألمِ عند رقم محدَّد، ظانَّةً أنها بفعلتها هذه تسيطر على الحال، وتتحكم فيه، وتحافظ على هدوئها الذي يسبق العاصفة.
المسلسل نفسيٌّ بامتياز؛ إذ يُفنِّدُ ويبحث في فكرة المرض النفسي، وتبعاتها، على المريض نفسه، ومحيطه من مقرِّبين وغرباء، بأسلوبٍ مُشوِّقٍ، وسلس، وغير مباشر. ويناقش باستفاضةٍ مسألتَيْ الاستغلال الجنسي، والتلاعب النفسي. كما يُشير إلى صفاتِ المتحرِّش النرجسي، الذي يعيش حالة نكران واضحة لشخصيته المضطربة، والعدوانية، الذي يطرب عند سماعه عبارات المديح والإطراء، ويؤمن بأنه مميَّزٌ؛ يمتلك ما لا يمتلكه الآخرون، بارد الإحساس ومتبلد المشاعر؛ فهو لا يحسُّ بمعاناة الآخرين ولا يأبه بها. يحسم الأمورَ كلَّها لصالحه، ويركِّزُ على وضعه الاجتماعي وصورته الفخمة أمام الناس، وينصبُّ تركيزه غالبًا على عالمه الذاتي ونفسه ومنجزاته، مُواظِبًا على تحقيق غاياته الخاصة وإشباع رغباته فقط. يميل إلى السيطرة عبر إغواء المرأة؛ أيًّا كانت في حياته، وفرض سلطته عليها. يدمن حبَّ نَفْسِهِ، وحبَّ الامتلاك، وإن كان امتلاكًا للآخرين. ويتجلَّى أحدُ أشكال الحبِّ بالنسبة له في إلحاق الأذى والوجع بالآخرين.
تتبدَّى عند الطبيب أهمية البدايات في أيِّ علاقة. فهو يهوى التعارف، وتسحره اللحظات الأولى، ويتحرَّق شوقًا لوهج اللمسات الأولى، ويجذبه كلُّ جديدٍ وبِكْر، وتتجلَّى لذَّتُهُ في الوجع؛ خاصة إن ترافق هذا بوجعٍ يُسبِّبُهُ لشريكته. لا يبحث عن علاقةٍ واحدةٍ دائمةٍ آمنة بغية الاكتفاء؛ إذ لا علاقة واحدة تكفيه. يلهث وراء تكرار البدايات، لينبهر في كلِّ مرة. يقاتل بضراوة من أجل الإيقاع بضحاياه، وتعجبه الأهداف المستحيلة؛ إذ إنَّ فيها مشقَّةً وتحديات. لكنه في الأحوال كلها، وفور إشباع رغبته، وانتهاء شغفه، يملُّ بسرعة، فيطير خارجًا من العلاقة، غيرَ ممسوكٍ. مُحدِّدًا لنفسه هدفًا جديدًا، كي تستمرَّ رحلة هوسه ولذَّته التي يصنعها من وجع الأخريات. إنه طبيبٌ مريضٌ بلا شك. أو مريضٌ طبيب، ثمة فرق في التوصيف ها هنا، إلا أنه غير مهم.