تجهد سوزومي إياتو (نانوكا هارا) وسوتا موناكاتا (هُكْتو ماتْزُمورا) في إغلاق أبوابٍ عدّة، يفتحها شرٌّ دفينٌ في أعماق اللامرئي. للثاني مهنةٌ معروفة بـ"غالق الأبواب"، بينما سوزومي تلميذة مُراهقة (17 عاماً)، تفقد أمّها باكراً، وتُقيم مع خالتها (لاحقاً، تنكشف مسألة العلاقة الفعلية بينهما)، وتُعاني كوابيس متعلّقة بفتاة صغيرة تنادي والدتها في أمكنةٍ غريبة. للصدفة دورٌ في لقاء أحدهما بالآخر، في صباح يومٍ يتلو حلمها ليلاً بشابٍ قادم باتجاهها. شاب الواقع يُشبه شاب المنام، والأول يسألها إنْ يكن هناك بابٌ في مدينتها هذه، جزيرة كيوشو، والاسم يعني "حديث" و"مقاطعات"، والجزيرة تُعتبر أكثر الجزر اليابانية الـ4 "جنوبيّةً"، والثالثة بينها في المساحة: "إنّها مكان نهضة الحضارة اليابانية" كما يُعرَّف بها.
بعد إخبارها إياه بمكان الباب (في جانبٍ من المدينة مهدّمٍ ومهجور)، تُقرّر سوزومي، بعد لقائها زميلاتها في الصف (ترى ما لا يراه أحدٌ من زملائها وزميلاتها عبر نافذة الغرفة) أنْ تلحق بسوتا، فتراه يعاند الباب المفتوح، الذي يخرج منه مارد أسود. صراع ينتهي بإغلاق الباب، وتعارف بينهما، خاصة بعد اكتشافها ما يحصل أمام عينيها. قطّ يظهر، يُحوّل سوتا إلى كرسيّ صغير، له 3 أقدام فقط. إنّه الكرسيّ نفسه الذي تصنعه والدة سوزومي لها، في صغرها.
هكذا يبدأ صراعٌ حادٌ بين الشرّ والقط من جهة أولى، وسوزومي وسوتا من جهة ثانية. صراعٌ يفرض على البشريَّين مطاردة الشرّ والقط من مدينة إلى أخرى، كما في رحلةٍ جغرافية وروحية وتأمّلية في أحوالٍ وعيشٍ وذاكرة وقهرٍ وإحباطٍ وبحثٍ عن إجابات وخلاصٍ.
تفاصيل كثيرة تُروى وتُعاش، وخفايا تنكشف، وأسرار تنفضح. هذا كلّه في "سوزومي" (2022، تحريك)، للياباني ماكوتو شينْكاي (ناغويا، 9 فبراير/شباط 1973)، المُشارك في المسابقة الرئيسية للدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير/شباط 2023) لـ"مهرجان برلين السينمائي". في 122 دقيقة، مليئة بمغامرات وتشويق ومثابرة على معاندة القدر، مع موسيقى وأغانٍ (فرقة الروك اليابانية Radwimps، والمؤلّف الياباني كازوما جنوتشي)، ترافق أحداثاً وحالاتٍ وانفعالاتٍ، فتُضاعف نسبة التفاعل والتواصل مع شخصياتٍ ومشاعر ورغبات وجهدٍ.
النص (كتاب شينْكاي) محمَّل بكلامٍ غير متوقّفٍ عند أحداثِ راهنٍ، لاستعادته ماضياً أيضاً. هناك ما يشي بأساطير وتأثيرات، منبثقة من الصراع الدائم بين الشرّ وخصومه، ومرتبطة بواقع أنّ اليابان قائمة على خطّ زلازل، وهذا يعني تحكّم شبح الموت بالجميع. مشاهدة "سوزومي"، إلى جانب متعة الألوان والرسوم وتشكيل الشخصيات، تُثير شعوراً بإسقاطات دائمة، تنهل من مَعين الثقافة والاجتماع اليابانيين، وتطرح أسئلة الراهن، عن الفرد والتكنولوجيا والصداقات والحبّ والذاكرة، وعن أولوية التصالح مع الذات، للتحرّر من ثقل الماضي، وعن أهمية مواجهة التحدّيات والمصائب.
"رحلة حقيقية عبر اليابان، ومغامرة رائعة في العالم الحديث": وصفٌ لماري لويز أف (موقع FZN الإلكتروني، 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، أي بعد 4 أيام فقط على بدء عروضه التجارية في الصالات اليابانية)، تذكر فيه أنّ "مصير" المُراهقة يتغيّر عند لقائها شاباً يبحث عن باب. هذا كافٍ لفهم عمق النصّ، وأسئلته ورموزه وأقواله، المعلنة والمبطّنة. فـ"سوزومي"، الناجح جماهيرياً في بلده (1،3 مليون مُشاهد في أول عطلة نهاية الأسبوع، والإيرادات تساوي 13 مليوناً ونصف مليون دولار أميركي في الفترة نفسها طبعاً)، يُزيل كلّ خط فاصل بين الواقع والمتخيّل، بإنجاز صُور تُدهِش جمالياتها الشكلية وانعكاس مضامينها في صُور باهرة، وبعض الصُور يُعيد ابتكار الجزيرة، بما فيها من عمارة وطرقات وأناسٍ وجسور وأنفاق وسكك حديدية لقطارات ومترو، وغيرها من التفاصيل الدقيقة.
السحري والمتخيّل في سيرة العلاقة الناشئة بين سوزومي وسوتا، بما في السيرة من عام وذاتي، يصنعان معاً جمالية الصُور وألوانها، وجمالية الموسيقى في تدفّقها الصاخب والحماسيّ، وفي سكينتها المرافقة لداخل الفرد وهواجسه وأحلامه ومخاوفه ورغباته. ورغم أنّ مدّته طويلة بعض الشيء، كما يُردّد مشاهدون له في عرضه الصحافي في الـ"برليناله الـ73"، يكشف شينْكاي عن براعة في صنع خيط درامي متماسك، يوغل في تمزيق الظاهر، وتعرية المبطّن في ذاتٍ وروحٍ.