"سيرتوس": عبور من الشرق وإليه

12 فبراير 2023
الموسيقي وعازف الكمان شعلان الحموي (صفحة الفنان على فيسبوك)
+ الخط -

شعلان الحموي، عازف كمان ومؤلف من مدينة حمص وسط سورية. يُقيم في مدينة جنت (Ghent) في بلجيكا. بإدارته فرقة "جيران" التي تضم عازفات وعازفين على آلات كلاسيكية غربية وتقليدية شرق أوسطية، وأسوةً بمواطنيه المشتغلين بصناعة الثقافة والفنون، الناشطين في عموم المهجر الغربي، إنما يسعى إلى الملاحة ضمن الفسحة التي يُتيحها راهن كلّ من المؤسسة الثقافية، والسوق الفنية والذائقة العامة.

تلك الفسحة هي غالباً ما يُسمّى اليوم بـ "العبور" (Crossover). ضمنها، تُستحضر موسيقى من أجناس موسيقية متنوعة، تخلق حواراً، يُعيد الفنان المهجري من خلاله اكتشاف موروثه المحليّ عبر منظار التعددية الثقافية، الذي تتبناه وترعاه حواضر الغرب الليبرالي، فيُقدّم موسيقى تمثيلية (Representational) عساها أن تضيف قيمة ما على غيرها، في مشهد فني صار له شكلٌ مسطّحٌ، لاهرميٌّ، وبات مُشبعاً ومزدحماً في كلي الفلكين، الأونلاين والأوفلاين، على حد سواء.

أما البوتقة التي تصهر الأجناس الموسيقية فهي الجاز، بحكم أنه جنسٌ موسيقيٌ قائمٌ أصلاً على تلاقح المكونات المحلية المهاجرة، التي اجتمعت وامتزجت على أرض الأميركيتين منذ أكثر من 200 عام. وأما القيم المضافة التي تُقدمها "جيران"؛ فتكمن أولاً في اختصاصها بموسيقات وآلات "الجوار" الجيوثقافي الذي يجمع الشام بتركيا واليونان، حتى البلقان، فيصل الشرق الأوسط بأوروبا. ثانياً، إدماجها الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية لحقبة الباروك إبان القرن السادس عشر، لما تتمتع به الآلات من تشابه في الطبائع والألوان مع الآلات الشرقية.

صدر الألبوم الأخير للفرقة بداية العام الحالي بعنوان "سيرتوس" (Sirtos) وهو المماثل اليوناني لموسيقى رقصة الدبكة. هنا، كأني بـ "جيران" تتحاشى استخدام الاسم الشائع في بلاد الشام، مكتفيةً بتضمينه عنواناً لأحد المقطوعات داخل الألبوم. بذلك تؤكد، أولاً، على سمة "العبور" من وإلى المكونات الموسيقية المتعددة للفرقة المتجاوزة للمنطقة الناطقة بالعربية، وثانياً، تنأى بمشروع "العبور" الذي تعكف عليه، عما أصبح عناوين "عبوريّة" نمطية مستهلكة.

المقطوعة الأولى من الألبوم تحمل اسم "سماعي حزين (Samaii Mélancolique). من الناحية الشكلية، يُحافَظ على قالب السماعي كما هو معروف، قالباً موسيقياً تاريخياً رصيناً، شاع في البلدان العربية وتركيا العثمانية منذ قرون، يتكوّن من عشر ضربات إيقاعية متفاوتة الشدة، يتخلله مقطع مغاير، حيويٌّ وراقص. أما من ناحية المعالجة، تخضع ألحانه المألوفة، خالية البُعيدات الشرقية، إلى انتقالات هارمونية مسهبة تكاد لا تُستقرّ على جهةً أو قرار، تحاكي جاز الثمانينيات المعروف بـ "فيوجن" (Fusion) والأسيد (Acid). كما وتلمس الأذن عند العزف سوية، مزجاً لونياً جذاباً لأصوات الآلات التقليدية.

تعدّ "يا محلا الفسحة يا عيني"، خامس مقطوعات الألبوم، من ألحان المصري الرائد سيد درويش (1892 - 1923) واحدة من بين الأغاني الأكثر تداولاً بين موسيقيي "العبور"، وذلك لشكلها البنائي السلس والمتناسق، ولحنها السائغ المنظوم على مقام النوى أثر خالي البُعيدات، أو أرباع الصوت الشرقية، بالتالي، سهل الهرمنة، أيّ إخضاعه للتوافقات السلمية، علاوة على طابعه الميلانكولي الحزين؛ الطبعة الراسخة للموسيقى الشرقية في الأذن الاستشراقية. أما ما يُضيفه أداء مغنية الفرقة، البلغارية غالينا ڤيليكوڤا (Galina Velikova)، بأسلوبها البلقاني ولكنتها العربية الخاصة، فلعلّها مسحةً "داليدَويِّة"، كناية عن المغنية الإيطالية المولودة في مصر داليدا (1933-1987) وأغنيتها المعروفة "حلوة يا بلدي".

للمقطوعة الآلية المعنونة "دبكة"، اختارت فرقة "جيران" اللون الشمالي المرتكز على خمس خبطات هادرة متتالية، تليها ثلاث خطوات هادئة متوارية. كما أنها خصّت في مقاربتها لتلك الرقصة الموغلة في القدم  الجانب الأكثر ديونيزيةّ، أو "باخوسية"، نسبة إلى كل من آلهة اللهو والنشوة والخمر اليوناني ديونيسيوس، ونظيره باخوس عند الرومان وفي بلاد الشام.

تعمل على إظهار الطابع السفلي الماجن كلّ من الكمان المنفرد المحاكي لصوت الربابة، وحوارية جنسي الصبا والهزام الباعثة، ببُعيداها النغمية المنقبضة على الحسيّة الشهوانية، تُعززها المعالجات الهارمونية والتوزيعية "البوليسية" بصوت مجموع آلات الوتريات في المستوى المتوسط والمنخفض.

موسيقى
التحديثات الحية

في المقطوعة السابعة استعراضٌ لقيمة تُضاف إلى موسيقى "العبور"، عن طريق صياغة موسيقى الباروك بشكل عصري وشرقي في آن معاً. يتم ذلك بتناول أغنية كنسية للمؤلف الألماني من القرن السادس عشر يوهان سباستيان باخ، عنوانها "صهيون تسمع حراسها يغنون"؛ فبحسب سفر أشعيا في إنجيل العهد القديم، تعلو أصوات التهليل والتسبيح فرحاً بعودة المسيح، مبشراً بالخلاص.

قد نُزعِ المكون الغنائي واكتُفيَ باللحن الأساسي، يؤدى بأسلوب شرقي زخرفي مُرسل على آلة الكمنتشة الشبيهة بالربابة، والمعروفة في كل من اليونان، وتركيا وإيران ودول وسط آسيا، بينما أُبقي على الكونتراباص يصدر عنه اللحن الارتكازي ذو الصوت المنخفض، الأفقي والمترادف، مُمثلاً عن حقبة الباروك وتقاليدها الموسيقية.
 
هكذا، تشكل الاثنتا عشرة مقطوعة التي تألّف منها ألبوم "سيرتوس" مجموعة لوحات موسيقية تُمثّل المواطن والمشارب التي أتى منها أعضاء فرقة "جيران" الـ 12، ليحلّوا في العواصم والمدن الغربية، يدرسون في جامعاتها وينشطون على مسارحها. كل لوحة من اللوحات تتكون من مزيجٍ، الجاز مادته الرئيسية، والتقنيّات الكلاسيكية الغربية وسائله سواءً في المعالجة النغمية أو التوزيع الآلي. كل لوحة على حدة تشكّل عبوراً من الشرق وإليه، من خلال الحضور في الغرب، وبالمرور على جميع جهات الأرض.

في مشهد التعددية الثقافية المُحتفى به غربياً، والذي لا يزال يلقى الدعم المادي والتشجيع المعنوي من قبل النخب والمؤسسات ذات التوجّه السياسي الليبرالي، تكثر اليوم المبادرات الفنية التي يتقدم بها فنانون مهجريون، ضمن إطار ما يسمى موسيقى "العبور". تتشابه مخرجاتهم الفنية وتتمايز، كما تتفاوت في الجودة والمكانة، فيما تتبارى في البحث عن قيم مضافة تجذب مزيداً من الأنظار والأسماع؛ وحدهما التاريخ والرؤية الإبداعية كفيلان بألا تمسي موسيقى "العبور" موسيقى عابرة.

المساهمون