استمع إلى الملخص
- فيلم "أشياء صغيرة كهذه" يعالج قضية "مغاسل المجدلية" في إيرلندا، حيث تدير الكنيسة الكاثوليكية مصحات عقابية للشابات، ويعاني الفيلم من ضعف الحبكة رغم الأداء الرائع.
- "حمام الشيطان" يعيدنا إلى القرن الـ18 في النمسا، مسلطًا الضوء على التعايش بين التدين والخرافات في مجتمع قروي، مع الإشارة إلى 400 حالة مشابهة في التاريخ الأوروبي.
من الأمور اللافتة للانتباه في إنتاجات السينما الأوروبية تحديداً عدم خلوّ عامٍ من أفلامٍ جادّة وعميقة، تنبش، بجرأة وصراحة ومصداقية وفنّية أولاً، المسكوت عنه في فترات حالكة في التاريخ الأوروبي.
لا يقتصر الأمر على أفلام الحروب، خاصة الحربين العالميتين، بل يمتدّ إلى حقب بعيدة أيضاً، وفترات تكاد لا تخطر ببال. المُثير أنّ الحبكات ليست محصورة بالسياسي أو الحربي أو التاريخي، بل أساساً بالاجتماعي والديني والشعائري والفولكلوري، وبممارسات ومعتقدات وأفكار إنسانية ناجمة عن التخلّف وانعدام الإنسانية والقسوة، فتجرى تعرية نوازع البشر وكشفها، وإظهار وحشية مجتمعات ودمويتها.
ليس البحث عن قصص مُشوّقة ومثيرة وجديدة غرضاً أساسياً لصنّاع هذه الأفلام، فللأمر جانبه التوعوي والفني والفكري، إلى محاولة التنبيه والتذكير بالماضي، خشية انزلاقات ربما تفضي إليه. الأهم أنّ الفيصل ليس دائماً الحكاية والوقائع، بل زاوية النظر، وكيفية التعبير بفنّية تؤكّد أن ليس هناك تطوّر وتقدّم من دون مراجعة صادقة وعميقة وجذرية للماضي، ومواجهته بكل ما فيه.
أول أفلام هذا النوع الأيرلندي "أشياء صغيرة كهذه" للبلجيكي تيم مَيلان: عودة إلى ماضٍ قريب، بتناول قضية "مغاسل المجدلية"، أي المصحّات العقابية المُروّعة التي أدارتها الكنيسة الكاثوليكية، بالتنسيق مع الدولة الإيرلندية، منذ عشرينيات القرن الـ19، وصولاً إلى عام 1996. هدفها الظاهر تقويم الشابات الساقطات والمُراهقات المنحرفات، وإصلاحهنّ. فيها، سُجنت نحو 30 ألف فتاة وامرأة.
الفيلم ليس الأول في تناول قضية فتيات أطلقت حولهنّ شائعات متعلّقة بالجنوح والانحراف والحَبل من دون زواج، وجرى إخفاؤهنّ والتخلّص منهن في عقود. ورغم الأداء الرائع لكليان مورفي في دور بِل فورلنغ، مُكتشف أحد هذه المغاسل سيئة السمعة، تخبّط الفيلم في حبكته، فأضعف المستوى الفني وأخَلّ بعمقه، مع أنّ جوّه العام مُقنع.
الدنماركي "الفتاة ذات الإبرة" للسويدي ماغنُس فون هورن يعود إلى بدايات القرن الـ20، مستعيداً قضية خطرة أخرى استناداً إلى وقائع حقيقية جرت في كوبنهاغن: قتل الأطفال للتخلّص منهم. هذا عبر مأساة كارولين (فيكتوريا كارمن سونّ)، بأداء بسيط مُتعدّد الطبقات. إنّها خيّاطة تغالبها الأقدار رغم قوّة بأسها. تظنّ أنّ الحياة ابتسمت لها، لكنّ صاحب المصنع العاملة فيه يُخلّ بوعد الزواج. ما يُضاعف صدمتها الجنين الذي تحمله، في زمن الإجهاض غير القانوني. هذا يضعها أمام خيارين: الإجهاض بإبرة حياكة، أو تسليم الرضيع إلى داغمار (ترين دِرْهولم) المُرعبة، التي تدير وكالة سرّية لتبنّي الأطفال غير المرغوب فيهم لقاء مبلغ مالي. لكن، هل يتمّ تبنّيهم فعلاً؟
ببلوغه تلك النقطة، يحدث تحوّل آخر في الفيلم، أكبر وأعمق وأكثر غموضاً وإثارة وقسوة، تعكسه براعة تمثيل، وأجواء محيطة: ديكورات باهرة تشي بأجواء قروسطية، خاصة البنايات، والحجرات الخانقة والخالية من الإضاءة، والأزقّة الضيقة والمتقاطعة مع بيئة قذرة بشكل يناسب الأحداث ودواخل الشخصيات. عَمَّقَ هذا اختيارُ الأسود والأبيض، ومساحة الكادر الضيق، وكتابة سيناريو (لين لاينبِك كْنودسن وفون هورن) مرّرت كلّ حدث في تطوّرات وتبعات تبدو حتمية. هذا ميّز "الفتاة ذات الإبرة" فنياً، بمختلف مستوياته، جاعلاً إياه أحد أبرز أفلام هذا النوع أيضاً.
إلى القرن الـ18 يعود "حمام الشيطان" للنمساويَّين فيرونيكا فرانتز وسِفِرن فيالا. دراما لا تقلّ أهمية، وإنْ يصعب تصديق أحداثها لأسباب عدّة: دمويتها وعبثيتها وتعذّر تخيّلها. لكنّ التصوير الواقعي الصادق، خاصة لأدقّ تفاصيل العنف والقتل والدماء المتفجرة بغزارة، نقل بعمق حقيقة ما جرى في النمسا حينها (عام 1750)، في المنطقة الجبلية ستيريا، بكشف موضوع مهمّ معروف بـ"الانتحار بالوكالة"، عبر قصة شابة تُدعى أغنس (آنيا بْلاغْ)، المتزوجة حديثاً، والراغبة في إرضاء زوجها وحماتها بأنْ تُصبح أمّاً. لهذا، تقبل تنازلات خاصة بمعيشتها، مثل الاحتفاظ بإصبع مقطوعة تُقدّم إليها يوم زفافها رمزاً للخصوبة والحظّ، فتضعها بسرور تحت الوسادة، ما يعكس معتقدات غريبة تماماً.
لكنّ الحَمل لا ينجح، وتتدهور صحّة أغنس، ثم حالتها العقلية قليلاً، ويستمرّ التراجع بشكل أعمق في نفسها، ما يدفعها إلى ممارسة عنف لأجل الخلاص، رغم معرفة نتيجته مسبقاً، اعتقاداً منها أنّ الوسائل الرهيبة المتطرّفة ستحرّرها من معاناة "حمام الشيطان"، وهذه ممارسة قديمة يُعتَقد أنّها تُطهّر الروح من الخطيئة. ثمّ يتبيّن أنّ مصيرها سيكون كمصير المرأة ذات الإصبع المقطوعة، التي أُعدمت سابقاً بتهمة قتل رضيع. فبدلاً من مواجهة اللعنة الأبدية بسبب خطيئة الانتحار التي لا تغتفر، يقتل المرءُ ليُعدم، أي "الانتحار بالوكالة"، والضحايا يكونون أطفالاً غالباً، بدافع منطق كاثوليكي يقول إنّ أرواحهم لا تزال نقية. لذا، يُعتَقد حينها أنّهم بقتلهم يقدّمون لهم معروفاً بإرسالهم إلى الجنة قبل اقترافهم خطيئة ما ذات يوم. وهذا تعايش غير مسبوق بين التديّن والخرافات المروّعة شبه الوثنية، يعكس الطبيعة القاسية التي لا ترحم لمجتمع قروي متخلّف، قائم على الصيد والعيش الكفاف، وتحكمه خرافات وطقوس جنونية، كمجتمعات عدّة في التاريخ الأوروبي.
مروّع التفكير في 400 حالة مماثلة مُسجّلة (جينيريك الختام)، من بين آلاف النساء اللواتي عشن أيامهن في ظلّ مجتمعات وشعائر وطقوس ومفاهيم دموية كهذه.