تناول "بين الموتى" (2020)، للأذربيجاني هلال بيداروف (1987)، موضوع الموت بأكثر من طريقة، جمعت بين السخرية والغرابة واللامعقولية والشاعرية والمُصادفة والغموض. عبرها، حاول الاقتراب من لغز الموت، بعيداً عن أيّ إسقاط ديني. ورغم عنوانه وموضوعه، الفيلم ليس كئيباً، ولا يُثير الحزن أو الانقباض. كما أنّه ليس سطحياً أبداً ولا مُستَهلكاً. هناك جهدٌ كبيرٌ وواضح في تعميق الأفكار، والابتعاد عن القوالب المحفوظة في تناول الموضوع. بالإضافة إلى تشويقٍ وإثارة. والأهمّ: رؤية بصرية لافتة للانتباه.
أينما تواجد، هل يجلب دافود (أورخان إسكندرلي) الحرية أو الحب إلى غرباء يلتقيهم في طريقه؟ لماذا لا يتحقّق أيّ منهما، من دون حضور الموت؟ أهو من يجلب الموت، أم الموت هو الذي يُطارده أينما توجّه؟ هل الموت، الجسديّ أو المعنوي، يقترن دائماً بالحب والحرية؟ هل المقصود أنّ الموت استراحة بين فواصل متنوّعة لحياة متكرّرة؟ أو أنّ هناك حياة تحدث بين موت وآخر؟
أسئلة فلسفية كثيرة طرحها هلال بيداروف في "بين الموتى"، المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، والفائز بـ"نجمة الجونة البرونزية"، في الدورة الـ4 (23 ـ 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) لـ"مهرجان الجونة السينمائي".
الشيء الوحيد المعروف عن دافود، غير المُفيد كثيراً في تحليل شخصيته، تعامله القاسي مع والدته المُسنّة المريضة (مريم ناغييفا)، ولومه إياها لعدم استدعائها له إلى المنزل، من الجامعة، لتوديع والده قبل وفاته. علاقته بها مُلتبسة، كما يبدو. تركها بقسوة وخرج، وهي تتمنّى أن يجلب لها الدواء. تصرّفه مع نساء يلتقي بهنّ مُناقضٌ تماماً لتصرّفه معها. هناك علاقة بصديقةٍ، يصطحبها معه على درّاجته البخارية، وبسببها يَقتل. هناك زوجة غائبة، وطفل مجهول، وحبّ مفقود يبحث عنه. خيوطٌ تتمحور كلّها حول النساء، ذوات بأعمارٍ مختلفة، وشرائح اجتماعية متفاوتة. الحضور قويٌّ ومُلاحَظ لثنائية الرجل المرأة، ما يجعل جانباً من الفيلم إسقاطاً على الواقع والمجتمع الأذربيجانيّين، وتحديداً، انتقاده طريقة تفكيرهما ومعاملتهما المرأة.
يشتم مدمنٌ صديقة دافود، الذي يقتله في مقبرة مجهولة فوق تلّة في إحدى ضواحي العاصمة باكو، أمام شخصية مهيبة وغامضة، يُنادونها بـ"الدكتور"، وهو أساساً تاجر مخدّرات. عندها، يأمر الدكتور 3 من أتباعه بملاحقة دافود، بمُهمّة ذات سمات كافكاوية، تستمر بعبثية من دون أنْ تُنجَز. في النهاية، بعد اطّلاعه تلفونياً على ما رأوه من أحداث، يُخبرهم الدكتور بأنّه اصطفاه ليكون الزعيم والقائد.
يلتقي دافود، صدفةً، شابّة مجهولة (كوبرا شوكوروفا)، مُصابة بالسُعار ومُقيّدة بالسلاسل في حظيرة والدها منذ أعوام، وذلك عند اختبائه من مُطَارديه في حظيرة إحدى الحدائق. تشعر الفتاة نحوه بأمان ودفء، وتعقر والدها حتّى الموت، دفاعاً عن دافود، الذي يهرب بدرّاجته البخارية قبل وصول الثلاثة، فتُخبرهم الفتاة بأنّه ترك الحبّ لا الموت.
في القصص اللاحقة، تتكرّر ثنائية الحبّ والموت، بالإضافة إلى ربطٍ، عفوي أو مقصودٍ، بين الحب والموت والعدالة. تكرار الأفكار لا يعني تكرار القصص، أو أنّ القصص مُملّة. لكلّ قصّة سياق مختلف، مُنفصل ومُتصل، يرتبط مكانياً بالريف الأذربيجاني، وزمنياً بحدوثه في يومٍ أو نهارٍ واحد.
بعد تركه الفتاة المسعورة، يُفجّر دافود المكبوت ويحرّر المقموع ويستدعي الموت من دون قصد. يلتقي زوجة (نارمين حسنوفا) تشكو قسوة زوجها السكّير وعنفه، الذي يحضر إلى المشهد فجأة، لممارسة قسوته وعنفه ضدها، فيُدافع دافود عنها، وتقتل الزوجة زوجها بحجر، ليس دفاعاً عن دافود، بل انتقاماً لأعوامٍ طويلة من القهر والكبت والذلّ، ومن مكابدات جمّة يمارسها القتيل عليها، هي التي تُسعَد بقتله. يحدث الأمر نفسه تقريباً مع عروسٍ (رنا أسجاروفا)، تهرب بفستان عرسها يوم زفافها، لأنّ أهلها أجبروها على زواجٍ من رجل لا تعرفه ولا تحبّه. قصّة طويلة بعض الشيء، تتخلّلها شاعرية ورومانسية وغموض، إلى كَرّ وفَرّ طبعاً: هي من أهلها، ودافود من مُطارديه. هذا ينتهي، كما هو متوقّع، بقتلٍ يحدث أمام دافود، إذ تنتحر العروس بمسدسٍ قبيل وصول الرجال الثلاثة.
لا شيء دينياً في الطرح. لكنّ تحليلاً أعمق يكشف أنّ شخصية دافود تُضاهي قابيل، الذي قتل مرة واحدة، وظلّت آثار الجريمة تلاحقه منذ ارتكابه القتل. ورغم استبعاد هذا الطرح قليلاً، لا يمكن استبعاد المسحة الروحانية والتأملية المؤطّرة للفيلم وحكايته، وحتّى الرغبة في "شعرنة" الأشياء. وهذا مقصود أحياناً.
بصرياً، يحرص هلال بيداروف بوضوح على تمييز الصورة، ويبرز هذا بالتصوير اللافت للانتباه لمدير التصوير إيلشان عباسوف. المَشاهد الخارجية مُختارة بعناية وإتقان، وإنْ تكن فيها مناظر وكادرات كثيرة، فرغم جمالياتها وسحرها، تفتقر بشدّة إلى الأصالة والرؤية البصرية المتفرّدة للمخرج، إذْ تستدعي إلى الذهن، لفرط تطابقها، مَشاهد من تُحفٍ سينمائية لمخرجين لهم تاريخٌ، ويُعدَّون من علامات السينما، لبصماتهم المميّزة.
رغم التوازن الجيّد للسرد القصصي بين الرمزية والدراما (سيناريو هلال بيداروف ورشاد سافار)، في كلّ قصّة كما في الربط بينها، ينقص الفيلمُ الكثيرَ، في أكثر من مستوى. فبيداروف لم يستطع، بنحوٍ مُحبِط، إيجاد توازنٍ بين القصص ورمزيتها كدراما. الخيوط الفرعية، التي أضفاها على الفيلم لإكسابه أبعاداً نفسية وشاعرية وروحية عميقة، لم تُسقطه في الافتعال أو التكلّف، بل أوقعته في غموضٍ كثيرٍ وغير مُحبَّب، ما أثقل عليه وحاد به إلى أفكار جانبية، لم تُعمّق شيئاً، ولم تُضف جديداً.