استمع إلى الملخص
- "مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي" في دورته الـ58 يشهد تغييرات شكلية بإلغاء عرض أشرطة كوميدية تسخر من جوائز المهرجان، ما يعكس تحولاً في تقديم المحتوى والتفاعل مع الجمهور.
- بينيثيو دِلْ تورو يقدم في شريط جديد تجربة فريدة تجمع بين السرد الذاتي والتعبير الفني، معبراً عن مشاعره تجاه المهرجان بأسلوب يجمع بين النكتة السوداء والسخرية الكوميدية.
جانبٌ من كلّ مهرجان يُغري، أحياناً، بكتابةٍ نقدية عنه، لكونه مُرافقاً أيام دورته السنوية. أفلام مختارة (سؤال آلية اختيارها مُكرّر، والإجابة عنه لن تكون حاسمة أبداً، فلكلّ مهرجان منطقٌ خاص به، يلتزم هدفاً ومبدأ ونمطَ تفكير فني وجمالي وثقافي وسياسي غالباً، وجغرافي أحياناً) تُغري مواضيعها، أو أسماء صانعين لها، لمُشاهدتها، التي (المُشاهدة) تُعين وحدها على كتابة نقدية.
أمّا الجانب المذكور، فتفاصيل ينتبه إليها مهتمّون ومهتمّات، ويتغاضى عنها (هناك عدم انتباهٍ إليها أيضاً) آخرون وأخريات، مع أنّها تُشكِّل جزءاً من البناء العام للمهرجان.
الدورة 58 (28 يونيو/ حزيران ـ 6 يوليو/ تموز 2024) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي" تحثّ على تنبّه إلى مسائل، بعضها معروف سابقاً، وبعضٌ آخر ينضوي في إطار متغيّرات شكلية. أحد أبرز تلك المتغيرات غياب العرض اليومي في العروض الصحافية كلّها (على الأقلّ) لأشرطةٍ (يُفترض بمدّة كلّ واحد منها ألاّ تتجاوز 90 ثانية)، تُصوِّر عاملين وعاملات في السينما التشيكية والغربيّة، يفوزون في دوراتٍ سابقة بجوائز أساسية. الأشرطة (إنتاج مشترك بين إدارة المهرجان ووزارة الثقافة التشيكية) ترتكز أساساً على سخريةٍ بديعةٍ من تلك الجوائز، بأساليب مختلفة، تُثير ضحكاً، وتكشف جمالاً سينمائياً في تكثيفٍ درامي لنكتةٍ ساخرةٍ، لعلّ هدف الإدارة والوزارة يتناقض كلّياً معها. فالفائز ـ الفائزة يبدوان غالباً غير مُهتمَّين بتمثال الكريستال، رمز المدينة، أو أنّهما يُضطرّان إلى التضحية به للنفاد من موقفٍ ـ حالة طارئ.
في الدورة 58، يُلغى عرض أشرطةٍ كهذه في العروض الصحافية. لكنّ إدارة المهرجان تُرسِل رابطاً (إضافة إلى صُور ومعلومات صحافية) عن شريطٍ جديد، يُخرجه التشيكي إيفان زَخَريَاش، مع الممثل الأميركي الإسباني بينيثيو دِلْ تورو، الفائز بـ"جائزة رئيس المهرجان ـ 2022". البنية الأساسية ثابتة: أولاً، على الشخصية المختارة أنْ تروي حكايتها مع الجائزة والمدينة والمهرجان، بتكثيفٍ درامي وسردي، إمّا بصوتها، والسرد يقول انفعالاً وتفكيراً وارتباطاً بتلك الثلاثية (الجائزة والمدينة والمهرجان)، التي يُضاف إليها تمثال الكريستال طبعاً، رمز الجائزة الخاصة بمهرجان تلك المدينة؛ وإمّا بمسار حكائيّ للحاصل معها. ثانياً، اختيار الأسود والأبيض غالباً في سرد الحكاية، أو الألوان، وهذا بحسب ما يُرى في الشخصية السينمائية وبيئتها الجغرافية والاجتماعية، والتركيبة النفسية والعقلية والروحية التي تصنعها.
مع دِلْ تورو، يُصبح البوح الذاتي أساسياً، وملامح وجهه وحركة جسده وعمق نظرته كفيلةٌ كلّها بتقديم المخبّأ في ذاته، إزاء الحاصل معه لحظة منحه الجائزة. يمشي دِلْ تورو حاملاً حقيبة، صامتاً ظاهرياً لكنْ ما يعتمل فيه ينكشف بنبرة الراوي، أي هو. يتساءل مواربة عن النافع في كلّ ما يحصل معه، إذْ يبدأ بوحه بالتالي: "يوم آخر، مدينة أخرى، ابتعاد آخر. دائماً الروتين نفسه. عليك أنْ تفعل هذا". كأنّه يسخر من الاحتفال الاستعراضي والأضواء والجوائز في المهرجانات كلّها، قبل أنْ يُقرّر درباً مختلفاً، فيفتح الحقيبة ويظهر التمثال، فيوحي دِلْ تورو باستعدادٍ للتحرّر منه، منهياً المشهد (تصوير يان فَلِتْسكي) بـ"طفح الكيل". هذا لاحقٌ لإعلانٍ قاسٍ: "أنْ أفعل ما عليّ فعله، وأخرج من هنا".
في 90 ثانية، يختزل بينيثيو دِلْ تورو جوهر اشتغاله التمثيلي، بما يملكه من معطياتٍ حسّية، تتمثّل بجسدٍ ووجه وملامح ونبرة ونظرة وطريقة سير على القدمين. يوحي، في هذا الشريط، أنّه يائسٌ وغير مرتاح، وأنّه راغبٌ في خلاصٍ من هذا الاستعراض، الذي يقول عنه مواربةً بأنّه مملّ. يبرز عفوية ومصداقية وإقناعاً، مع أنّه يؤدّي هذا الدور تحديداً ببراعة وجمال، لإتقانه الحِرفيّ والمهنيّ تمثيلاً غير محتاج إلى تمرينٍ. فالتراكم الفني والثقافي والجمالي كافٍ لإنتاج عفويةٍ صادقةٍ، مع أنّ الشريط محتاج إلى تمثيلٍ، وهذا يبرع فيه دِلْ تورو.
رغم أنّ التعريف الرسمي بهذا الشريط (كأشرطة سابقة للممثلين الأميركيين داني ديفيتو وهارفي كايتل وجون مالكوفيتش وجوني ديب، والبريطاني جود لو، والتشيكيين جوزيف سومر ويرينا بوهدالوفا، إلى المخرجين التشيكوسلوفاكي الأميركي ميلوش فورمان والتشيكوسلوفاكية فِيَرا خيتيلوفا، وغيرهم) يتمثّل بأنّه "ترويج للمهرجان"، يشي كلّ عمل بأنّ في المخبّأ نكتةً يُراد لها سخرية كوميدية سوداء، لا انتقاداً بتهكّم مرير وقاسٍ.