صالاتٌ سينمائية عدّة تفتح أبوابها في بيروت ومدنٍ لبنانية أخرى. مكاتب توزيع أفلامٍ مختلفة تستعيد تقليداً، يكاد عاملون وعاملات في المهنة، رغم قلّة عددهم حالياً، ينسونه: إرسال البرنامج الأسبوعي للعروض اليومية. بعض الأيام يشهد 4 حفلاتٍ، بدءاً من الساعة الثانية بعد الظهر. تقليدٌ آخر لن يحضر بسهولة: لائحة تضمّ عدد مشاهدي هذا الفيلم أو ذاك، في هذه الصالة أو تلك، يومياً، مع إحصاءاتٍ تعكس حركة الصالات وحفلاتها اليومية، في المدن المختلفة.
تقليدان مُهمّان للمهنة، إنْ يُزاوِل الناقدُ مهنتَه في مؤسّسة محلية. إحداهما مهمّة أيضاً لناقدٍ يعمل في مؤسّسة عربية، فلائحة عدد المُشاهدين مؤشّر يُساهم، بشكلٍ ما، في فهم طبيعة العلاقة اللبنانية بالسينما، وبالأفلام وأنواعها، وبالصالات ومناطقها، خصوصاً أنّ البلد طائفيّ بامتياز، وكلّ شيءٍ فيه مرهونٌ بالطائفيّة.
التقليدان يغيبان طويلاً، وهذا طبيعيّ فالصالات مقفلةٌ، وإقفال بعضها سابقٌ لتفشّي كورونا، لأنّ جزءاً من "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) يندلع قرب هذا البعض. البرنامج الأسبوعيّ يحضر مع إعادة فتح الصالات، لكنّ لائحة المشاهدين ستبقى غائبة، فالأرقام لن تُسِرّ أحداً، والأزمة الاقتصادية تستمرّ في ضرب مقوّمات العيش في بلدٍ مرتبك، والخراب كبير. وسائل المُشاهدة ـ المُتاحة لكثيرين في مراحل سابقة على الأزمة والوباء ـ تزداد حضوراً، والبدل المالي للحصول عليها أقلّ كثيراً من ذاك المطلوب لدخول صالةٍ: 50 ألف ليرة لبنانية. هذا مبلغ كبيرٍ، في ظلّ الأزمة الاقتصادية، مع أنّه يُساوي نحو 3 دولارات أميركية، بحسب سعر الصرف في السوق السوداء، التي تشهد ضربات متتالية للعملة اللبنانية، يوماً تلو آخر (في 26 يونيو/ حزيران 2021، مثلاً، تجاوز سعر الدولار الأميركي الواحد 17 ألف ليرة لبنانية).
العلاقة اللبنانية بالسينما، أفلاماً وصالاتٍ ومناطق واختيارات، غير سليمة دائماً، وغير واضحةٍ وغير مفهومة غالباً. تحتاج إلى بحثٍ، يستعين بعلوم الاجتماع والنَفْس والتربية، لفهم طبيعتها، في غيابِ ثقافةٍ سينمائية في أيّ منهجٍ تربويّ، مع حضورها، القليل نسبياً، في سياقات حياتية لأناسٍ عديدين. الغياب مُنسحبٌ أيضاً على ثقافاتٍ وفنون، في النظام الأكاديمي المهترئ، منذ سنين، في مؤسّسات تربوية وعلمية، خاصّة وعامة، كما في خارجه. الأفلام اللبنانية غير جاذبةٍ، باستثناء ما يكون تجارياً أو استهلاكياً، وليس كلّ تجاري أو استهلاكي جاذباً أيضاً. لا أفلام عربية في الصالات اللبنانية منذ سنين، إلا بفضل مهرجاناتٍ، قليلة أصلاً، بعضها معنيّ بالسينما العربية. مهرجانات أخرى تُعنى بسينما مختلفة، فتختار، أحياناً، أفلاماً آسيوية وأفريقية وأميركية لاتينية، وأوروبية أيضاً، خارج النتاج الفرنسي أو الفرنكوفوني، وهذا نتاجٌ مُحبَّب لفئةٍ منبثقة من ثقافة وتربية مسيحيّتين، غالباً.
نادرةٌ تلك الصالات المهتمّة بالمختلف عن التجاريّ والاستهلاكي. ورغم ندرتها، تُحارَب، فأصحاب الصالات يكترثون بالمُربِح، وهذا حقّ لهم، لكنّهم يتعالُون على غير المُربِح، رغم تخصيصهم له صالة من أصل عشرات الصالات التي لهم. تراجع عدد مُشاهدي الأفلام ومشاهِداتها، في الصالات اللبنانية، معروفٌ قبل "انتفاضة 17 أكتوبر". الانصراف إلى وسائل مُشاهدة خارج الصالة معروفٌ، أيضاً، قبل ذاك المنعطف المُعطَّل في سيرة البلد وناسه. المأزق ناشئٌ من كثرة الصالات وقلّة التنويع السينمائيّ، وغالبية الناس ترى في الصالة مساحةَ تسليةٍ وتنفيسٍ عن احتقانٍ يومي، لا أكثر. الراغبون والراغبات في المختلف يبقون أقلّية، لكنّها أقلّية وفيّة لصالة تعرض المختلف دائماً، ولمهرجانٍ يُتيح للمختلف تواصلاً معهم. عدد هؤلاء ثابتٌ. تبدّله يحصل، بين وقتٍ وآخر، لكنْ من دون إحداثِ فرقٍ هائل وصادم.
في 3 يونيو/ حزيران 2021، تفتح صالات لبنانية عدّة أبوابها، مع التزامها شرطاً أساسياً: تشغيل 50 بالمائة فقط في كلّ صالةٍ. هذا مهمّ ومطلوب. تشدّد السلطات الحاكمة في إقفال الأمكنة العامّة مُجزّأ وغير مُنصف. أمكنة يُسمح لها بالعمل (مقاهٍ، ملاهٍ ليلية)، رغم أنّها أخطر على الفرد من غيرها، الممنوع من العمل. فتح الصالات مُنتظر منذ وقتٍ. جولةٌ غير مُكتملة تعكس شيئاً من واقعٍ، يُفترض به أنْ يُعيد إلى الصالات والمدن بعض حيويةِ زمنٍ ماضٍ. زملاء وزميلات يشعرون بأنّ استعادة ذاك الزمن صعبةٌ، بل مستحيلة، فكلّ شيء إلى مزيدٍ من خرابٍ، والقيامة غير واردة، في المدى المنظور.
مُشاهدون ومشاهدات قليلون يُعبّرون عن راحةٍ بإعادة فتح أبواب الصالات أمامهم. يقولون إنّ أمراً كهذا منشودٌ منذ أول إقفال عامٍ في البلد (12 مارس/ آذار 2020)، بسبب تفشّي كورونا. لكنّهم يُدركون تماماً، ونبرة أصواتهم تؤكّد إدراكهم، أنّ النبض المطلوب غير حاضرٍ وغير مُستعاد، لا الآن ولا بعد أشهرٍ أو سنين. هذا غير مُبالَغٍ به. كلّ شيء في البلد ينهار، والسابق على الانهيارات يُصبح زمناً قديماً، يتذكّره متمكّنون من عيش بعض تفاصيله، والتفاصيل غير مُريحةٍ كلّها أصلاً. راحة الدخول إلى صالةٍ سينمائية، بعد أشهرٍ من الإغلاق، غير كاملةٍ. فيها نقصٌ، والقائلون بها يعجزون عن تحديد واضحٍ للنقص الذي يشعرون به.
فتح الصالات، مُجدّداً، لحظةٌ في مسار أزمنةٍ لبنانية ضاغطة وخانقة. فهل ستبثّ اللحظة شيئاً من هدوءٍ وسكينةٍ، رغم تشاؤمٍ يُرافق فتح الصالات، المطلوب أصلاً؟