لن يتمكن الصحافي الفلسطيني عبد الله التركماني من العودة إلى مقر عمله، أو تقبيل صورة أطفاله التي وضعها على مكتبه، بعد استهداف الطائرات الحربية الإسرائيلية بُرج الجوهرة، وسط مدينة غزة، الذي يضم مقر صحيفة "فلسطين" التي يعمل بها، إلا أنه سيواصل عمله من داخل بيته.
يضم المبنى الذي تم استهدافه من الطائرات الحربية الإسرائيلية، فجر الأربعاء، وهو اليوم الثالث للعدوان الإسرائيلي العنيف على قطاع غزة، العديد من الوكالات والمؤسسات والمكاتب الإعلامية المحلية والدولية، فيما يُعد هذا البرج الثاني الذي تستهدفه القوات الإسرائيلية بعد تدميرها برج هنادي، غربي مدينة غزة، وتسويته بالأرض. مشاهد الدمار التي خلفها القصف الإسرائيلي ظهرت كذلك في محيط المبنى المكون من 13 طابقًا، والذي تجاوره العديد من المباني السكنية التي تأثرت بفعل شدة القصف، فيما تم تدمير جميع المحال التجارية في أسفل المبنى، وتناثرت أدواتها وحطامها في الطرقات، علاوة على إغلاق شارعي الوحدة والجلاء الرئيسيين بفعل تناثر الردم والحُطام.
يقول الصحافي التركماني لـ"العربي الجديد": "منذ تلقينا نبأ إخلاء البرج بسبب تهديد إسرائيلي بقصفه، مر أمامي شريط كبير من الذكريات التي جمعتني مع زملائي في العمل على مدار 11 عامًا عملت فيها في صحيفة "فلسطين"، التي يقع مقرها في أحد طوابق هذا البرج، ومع توالي الضربات الجوية على البرج، شعرت وزملائي بأسف وحزن كبيرين، إذ لم تكن لدينا فرصة لأخذ أمتعتنا وأغراضنا الشخصية، فيما اكتفينا بتناقل الصور التي التقطناها معا لبعضنا داخل أروقة مقر عملنا".
ومنذ اللحظات الأولى للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، الذي بدأ مساء يوم الاثنين الماضي، اصطحب التركماني وزملاؤه أجهزتهم المحمولة إلى بيوتهم للعمل بموجب خطة وتنسيق مشترك من داخل المنازل، وفق تعبيره، لعلمهم المسبق بأن "طائرات الاحتلال لن تترك أي مبنى سواء سكني أو صحافي". ورغم أخذ أقصى درجات الحيطة والحذر، إلا أن الشعور بالأمان بات منعدمًا عند التركماني، بفعل مواصلة قصف الطائرات الحربية الإسرائيلية لكل بقعة في قطاع غزة بما فيها المناطق المأهولة والمساكن، إلا أنه يقول في الوقت ذاته: "سنستخدم كل ما لدينا من إمكانيات بسيطة لاستمرار عملنا في نقل الحقيقة وما يجري في غزة إلى العالم، ونسعى جاهدين للبقاء صامدين رغم كل ما يحيط بنا".
وتناثرت أقلام الصحافيين العاملين في المبنى وأدواتهم بين فُتات الحجارة المُتطايرة نحو الشوارع المُحيطة، فيما بدت ملامح الدمار واضحة على المبنى بفعل قوة الانفجارات، ولم تسمح مساحة القاعدة العريضة للمبنى بالانهيار الكامل للهيكل الخارجي، إلا أنه لم يعد مؤهلًا للعمل، في ظل مخاوف من انهياره نتيجة تصدع أعمدته وأساساته. ويضم المبنى المُدمر العديد من الوسائل الإعلامية، وأبرزها الوكالة الوطنية للإعلام، صحيفة فلسطين، التلفزيون العربي، قناة الاتجاه العراقية، المركز الفلسطيني للحوار الديمقراطي والتنمية السياسية، قناة النجباء، قناة السورية، قناة المملكة، وكالة سبق 24، منتدى الإعلاميين الفلسطينيين، ووكالة APA المحلية. واعتاد الصحافيون اعتلاء سطح المبنى لتصوير لحظات التصعيد الإسرائيلي على قطاع غزة، والتصوير المباشر لمختلف الأحداث والمجريات، حيث يتوسط المدينة، فيما يُظهر ارتفاعه مختلف التفاصيل والاتجاهات، إلا أن استهداف المبنى منعهم من تغطية العدوان الأخير.
حالة من الإحباط أصابت المُصورة الصحافية حنين جحا، التي تعمل في أحد مكاتب الإنتاج الفني والإعلامي داخل برج الجوهرة، فور ورود الأنباء التي تفيد بقصف البرج. وتقول: "المبنى ليس مجرد حجارة فقط، بل بداية مشواري الصحافي، وبداية طريقي في تعلم أساسيات التصوير، إلى أن بِت متمكنة منها".
من جانبه، يقول المدير التنفيذي للوكالة الوطنية للإعلام سامر ترزي: "كُنا نمارس عملنا الطبيعي في تغطية الأحداث والمستجدات في قطاع غزة، إلى أن فوجئنا، مساء أمس الثلاثاء، بحالة من الارتباك داخل المبنى، وتعالت الأصوات بضرورة إخلائه بعد وصول تهديدات إسرائيلية بقصفه، فقمنا بإخلاء مكاتبنا ونزلنا للشارع حتى لحظة قصف المبنى، فجر اليوم الأربعاء". ولم يتمكن العاملون في الوكالة التي تضم العديد من القنوات الفضائية، من نقل المعدات، والتي تتطلب وقتًا طويلا ومساحة عمل واسعة، حسب ترزي، باستثناء إخلاء بعض الكاميرات والمُعدات التي كان يحملها المصورون خلال تغطيتهم الميدانية. ويؤكد ترزي أنه وعلى الرغم من الألم الذي أصاب مختلف الكوادر الإعلامية، بقصف المبنى الذي يضم ذكرياتهم وسنوات عملهم الطويلة، والأثر السلبي الآني على العمل، وتقديم الخدمة للقنوات الفضائية، إلا أن التغطية ستبقى مستمرة، ولن تكسر مثل تلك الممارسات إرادة الصحافي الفلسطيني.
من جانبه، يوضح رئيس المكتب الإعلامي الحكومي سلامة معروف أن الاستهداف يأتي في سياق النجاح الذي حققه الإعلام الفلسطيني، الذي يزاحم رواية الاحتلال الإسرائيلي، وينقل حقيقة الرواية الفلسطينية، ويفضح على مدار الساعة جرائم الاحتلال. ويوضح معروف، في حديث مع "العربي الجديد"، أن استهداف مبنى يوجد فيه عدد من الوكالات والمكاتب الإعلامية أمر غير مستغرب على الاحتلال الإسرائيلي "الذي يتعامل في كل مرة وفق قواعد الصلف والعنجهية، وكأنه فوق القانون، وفوق المعايير والقيم الدولية، التي فرضت حماية كل الأعيان المدنية، وحماية مضاعفة للمؤسسات الإعلامية، ما يعني أنه ارتكب جريمة مُركبة، تضرب عرض الحائط بكل منظومة القيم والأعراف الدولية".
ويتجهز المكتب الإعلامي لرفع مذكرة لكافة الجهات، وفي مقدمتها مجلس وزراء الإعلام العرب، والاتحادات الإقليمية والدولية، وصولًا إلى مقرر حرية الرأي والتعبير في الأمم المتحدة، وفق معروف، لوضعها في صورة الاستهدافات المتواصلة للصحافيين الفلسطينيين، ومطالبتها بالانتصار لقوانينها ومواثيقها التي ترفعها، إضافة إلى شطب عضوية دولة الاحتلال من المحافل الدولية وتشكيل لجنة تحقيق ميدانية تطلع على معظم جرائم الاحتلال.