من يصدق أن عبد الفتاح القصري (1905 ــ 1964) الذي ملأ حياتنا بهجة وسعادة وضحكاً، يمكن أن ينتهي به الحال وقد تكالبت عليه الأمراض، ما أدى إلى فقدانه البصر. وقتها صرخ صرخته الشهيرة أثناء أدائه مشهداً أمام إسماعيل ياسين قائلاً: "أنا مش شايف غير ظلمة". ضحك الجمهور من الجملة ظناً أنها إحدى "قفشات" ذلك الفنان المبدع. الوحيد الذي أدرك المأساة كان إسماعيل ياسين الذي أمر بإنزال الستار فوراً.
في الحقيقة، كان نزول الستارة بداية النهاية لفنان كبير. هبطت حياة القصري وازدادت تدهوراً بعدما تركته زوجته الشابة لتبدأ علاقة مع رجل آخر، وتستولي على المال الذي كان يمتلكه. وهو ما أدى إلى طرده من منزله المتواضع واضطراره إلى السكن في غرفة خانقة غير صالحة للعيش.
مع التدهور النفسي والجسدي، بدأت علامات الخرف تهاجمه. وأخذ يعاني من سخرية أولاد الحي. وقتها لم يقف إلى جانبه أحد، وعانى من انفضاض الكثير من أصدقائه الفنانين عنه. الوحيدتان اللتان داومتا على زيارته كانتا العظيمتان ماري منيب وزينات صدقي. وبالطبع كانت مساعدتهما له على قدر المستطاع. هكذا بدأت كل من منيب وصدقي بجمع بعض المال من أعضاء فرقة الريحاني كمساعدة له.
توفي القصري كمداً وحسرةً، ورحل عن دنيانا، لكنه لم يرحل عن ذاكرة أهل الفن. وظهرت بعد رحيله "عقدة عبد الفتاح القصري"، فأصبح كل ممثل يخشى أن تصيبه نهاية عبد الفتاح القصري المأساوية الفقيرة المعدمة. وبات الخوف من العوز والضيق والمرض هاجساً عند كثيرين. لكن ذلك لم يمنع نهاية القصري أن تتكرر مع فنانين آخرين، مثل الفنان المدهش أمين الهنيدي الذي حجزت المستشفى جثمانه في ثلاجة المشرحة ، ولم تسلمه إلى ذويه إلا بعد أربعة أيام. وذلك بعدما دفع صديق عمره ورفيق الدرب سمير خفاجي نفقات العلاج.
هذه النهايات الحزينة علّمت فنانين كثراً تأمين مستقبلهم حتى لو من خلال المشاركة بأعمال رديئة أو ضعيفة فنياً. وإن كان الجمهور يتساءل عن سبب قبول بعض الممثلين/ات بهذه الأدوار البسيطة، فإن مصير القصري ربما يوضح الإجابة.
لكن فنانين كثراً رفضوا الخضوع لمثل هذا الواقع، ولم يتنازلوا عن مستوى الأدوار التي يقدمونها، رغم ضيق حالهم. على سبيل المثال نذكر الفنان الكبير عادل أدهم، الذي لم يقدّم إلا فيلماً واحداً كل عام. وبما أنّ دخل الفيلم الذي يظهر فيه لا يكفي لتغطية نفقات السنة، كان يضطر إلى أن يعيش آخر 3 أشهر من كل عام على الاستدانة من أصدقائه.
أما الفنان الكبير عمر الشريف، الذي عرف مصاعب مالية، فاعتمد على الإعلانات لتأمين نفقات حياته. وعندما انتقده البعض، رد بشكل مباشر "من يعترض فليتفضل ويساعدني بالمال"، ثم قال "كيف أكون عمر الشريف وأطلب من أي شخص أن يقوم بتسليفي؟". أصبح العوز والفقر والحاجة كابوساً جاثماً على صدر كل فنان. هناك من ينجو منها وهناك للأسف من تفتك به. إنها دراما الحياة وليس الفن.