يسأل البعض، في سهرات متنوّعة، عن أفضل فيلمٍ مُشَاهَد خلال عامٍ منصرم، أو عن أفضل فيلمٍ لمخرجٍ محبوب، أو عن أفضلِ سينمائيٍّ في عامٍ، أو في أعوام سابقة عدّة، أو في تاريخ اشتغاله. "الأفضل" سمة أساسية لأسئلةٍ كهذه، يرغب طارحوها حديثاً عابراً، أو مدخلاً إلى نقاشٍ حول الفيلم أو المخرج. ورغم أنّ طرح التساؤلات يحدث غالباً في سهراتٍ، تضمّ معارف وأصدقاء، تُعبِّر الإجابات، ومعظمها مُقتَضبٌ، عن علاقة تكون انفعالية أكثر منها نقدية. أما جعل التساؤلات مدخلاً إلى نقاشٍ، فحدوثه نادرٌ، وإنْ يحدث، تتسرّب مُتعة إلى سهرةٍ، فتزداد المتع فيها، أو تُصبح السهرةُ ممتعةً فعلياً.
لكنّ سؤال "الأفضل" غير منطقيّ، إنْ يكن لعبةً موزّعة بين سؤال وجواب، أو لا. الإجابة الفعلية تعجز عن حسم مسألةٍ كهذه، رغم أنّ كثيرين، وبعضهم نقّاد، متمكّنون من حسم الإجابة، فحماستهم للسينما دافعٌ لهم إلى بلورة علاقة متينة بسينمائيّ أو بنوعٍ أو باشتغالٍ، يصعب معها تبيان خللٍ أو خطأ أو تراجعٍ في اشتغالِ مخرجٍ محبوبٍ إلى حدّ تجريد فيلمٍ له من كلّ خللٍ أو خطأ أو تراجعٍ؛ أو بالأحرى إلى حدّ تبرير كلّ خللٍ أو خطأ أو تراجع، بدفاعٍ شرسٍ عن هذا السينمائيّ المحبوب، وعن اشتغالاته وأفلامه ومسالكه، رغم كلّ شيءٍ.
"الأفضل" هذا غير شبيهٍ بلوائح تنشرها صحفٌ ومجلّات ومواقع ومؤسّسات إعلامية، تتضمّن "أفضل 10 أفلامٍ في عامٍ منصرم"، أو "أفضل 100 فيلمٍ في تاريخ السينما" ("العربي الجديد"، 3 أغسطس/ آب 2020). هذا مُختلفٌ. "الأفضل"، وإنْ يُحدَّد في تلك السهرات بفترة معيّنة أحياناً، غير معنيّ بتلك اللوائح، بقدر ما يهدف التساؤل عنه إلى معرفةٍ عادية عن علاقة أحدهم بالسينما، الذي يُسأل عن أفضل فيلمٍ مُشَاهَدٍ قبل أيام، أو قبل "ألف عام".
سؤال "الأفضل" هنا مُنبثقٌ من تقليدٍ، مُتّبع لدى كثيرين، يقول بفيلمٍ واحدٍ أو بسينمائيّ واحدٍ، غالباً. لذا، تصعب الإجابة. الفيلم الواحد غير موجود، والسينمائي الواحد يُنجِز أفلاماً لن تكون كلّها ذات سوية جمالية واحدة. تفضيل فيلمٍ على أفلامٍ كثيرة لن يبقى على حاله "إلى الأبد"، فمُشاهدته عند عرضه تختلف أحياناً عن مُشاهدته مجدّداً، في أوقاتٍ وظروفٍ أخرى. مُشاهدة فيلمٍ في مهرجانٍ، يعرضه للمرة الأولى عالمياً، تختلف عن مشاهدته بعد فترة، في عرضٍ تجاري أو في مهرجانٍ آخر. للناقد مشاعر وانطباعات وتفكير، تتبدّل أحياناً عند مُشاهدة أخرى لفيلمٍ واحد، وعند مشاهدات أخرى أيضاً.
هذا لن ينفي الجانب النقدي. المهنة تُدرِّب على تنبّه نقديّ، لن تحول المشاعر والانطباعات دون بروزه. لكنّ ظروف المُشاهدة أساسيّة في النظرة الأولى، كما في نظراتٍ لاحقة، والمزاج النقدي قابلٌ للتبدّل مع مرور وقتٍ يمنح الناقد معرفة إضافية ووعياً إضافياً واختباراتٍ إضافية، وللمُشاهدات الكثيرة دورٌ في تطوير الوعي المعرفي لديه. هذا كلّه لن يمنع ناقداً من رؤية نقدية، تكون أساس رأيه وانفعالاته وانطباعاته. هذا كلّه أيضاً لن يؤدّي إلى تغييرٍ، أحياناً، فبعض الأفلام تُحَفٌ، تحفر عميقاً في مخيّلة ناقدٍ وانفعالاته وتأمّلاته، ما يجعله صلباً في دفاعه عن فيلمٍ أو عن سينمائيّ، ودفاعه التزام وتورّط، ثقافيان وفنّيان وأخلاقيان، في علاقة متينة بين ناقدٍ وفيلمٍ، أو بين ناقد وسينمائيٍّ.
لذا، يبقى "الأفضل" لعبة مُسلّية، لوقتٍ قليل، مع أنّ نقّاداً غير مهتمّين بها، وغير منغمسين فيها، وغير موافقين على ممارستها. بعض النقّاد ينسحب من التساؤل، ويمتنع عن الإجابة، فلكلّ فيلمٍ وقته، ولكلّ مُشاهدة ظروفها، إذْ يُمكن لكلينت إيستوود أنْ يُخرج أفلاماً عدّة متتالية، تمتلك جماليات باهرة، ثم يُحقِّق فيلماً يسقط في بهتانٍ وبساطة وارتباكات. ورغم أنّ ليوسف شاهين عشرات الأفلام، قلّة منها تبدو "أفضل" من غيرها، و"الأفضل" هذا باقٍ سنين مديدة، من دون تناسي أنّ "الأفضل" القليل لن يكون مُشتركاً بين كثيرين. وإذْ يُشاهَد فيلمٌ لغسان سلهب بشغفٍ، يحاول اللحاق بشغف المخرج بالسينما، فإنّ مُشاهدته مُجدّداً ربما لن تمتلك الحماسة نفسها، أو ربما تمتلكها، وأحياناً بحماسة أكبر وشغفٍ أقوى. و"المواطن كاين" (1941) لأورسون ويلز يبقى في المرتبة الأولى في 5 استطلاعات رأي متتالية للمجلة البريطانية "سايت أند ساوند"، التابعة لـ"معهد الفيلم البريطاني"، حتى عام 2012: هل يحول هذا دون انتقاداتٍ سلبيّة لنقّاد ومهنيين ومُشاهدين "سينيفيليين"، تظهر بين حينٍ وآخر؟
"الأفضل" مسألة شخصية بحتة، كلوائح "أفضل 10 أفلام في العام المنصرم"، المنشورة نهاية كلّ سنة، أو "أفضل 100 فيلمٍ في تاريخ السينما". لكنّها تُصبح، أحياناً، لعبة مُسلّية في سهراتٍ ولقاءاتٍ، لا أكثر، رغم أنّ البعض غير مُكترثٍ بها، وغير منخرطٍ فيها؛ ورغم أنّ بعضَ البعضِ غير مُتردّد في الإجابة على سؤالٍ كهذا، بالقول إنّ "أفضل الأفلام تلك التي لم تُنجَز بعد"، ولعلّ "أفضل المخرجين قاطبةً ذاك الذي لم يولد بعد".