انتهت قيود كورونا في الآونة الأخيرة، بتكبّد قطاع الثقافة خسائر جمّة، تبعاً للإجراءات التي تم اتخاذها من أجل الوباء، لتفضي أخيراً إلى شل حركة السوق الثقافية في معظم بلدان العالم. واستناداً إلى تقييم أجرته اليونسكو مع نهاية عام 2020، حذرت فيه من الآثار التي ألحقها الوباء بقطاع الثقافة والعاملين فيه، كانت النتائج صادمة.
أشارت التقديرات إلى أنّ "قطاع السينما وصناعة الأفلام" سيسجل خسارة عشرة ملايين وظيفة في عام 2020، في حين قد تقلص ثلث المعارض الفنية عدد موظفيها إلى النصف خلال الأزمة، وقد تُلحق ستّة أشهر من الإغلاق خسارة مالية تصل إلى ما يربو عن 10 مليارات دولار بقطاع الموسيقى".
عودة مشوشة
يبدو أن موجة التعافي بدأت تبشر بتحسن قد يكون طفيفاً، لكنه ملحوظ. ومع الرهان على اللقاحات، ثمة بعض المؤشرات التي قد تدل على تغيير ما. ففي ألمانيا مثلاً، سمحت الحكومة بمعاودة بعض الأنشطة الثقافية التي تقام في الهواء الطلق فقط، كعروض الأفلام، لكن لم يتم تحديد موعد بعد لإعادة افتتاح المسارح أو دور السينما، أو السماح بإقامة الحفلات الموسيقية.
لهذه الأسباب، تم إلغاء سبعة مهرجانات موسيقية مؤخراً، كان من المقرر أن يُجرى معظمها هذا الصيف في ألمانيا، لتستمر بذلك القاعات والمهرجانات الألمانية بإغلاق أبوابها منذ أكثر من عام.
كذلك الأمر في جارتها فرنسا، التي أسفر الإغلاق فيها عن خسائر قد لا تتمكن الحكومة من تداركها، إذ نشر مجلس شيوخها في منتصف شهر مايو/أيار الماضي تقريراً أوضح فيه الخسائر التي تكبّدها قطاع الثقافة في العام الفائت، وتحمّلت العروض الحية الخسارة الأكبر بمقدار 2.3 مليار يورو.
ومع سلسلة الاحتجاجات المنددة بإجراءات الحكومات المفروضة لمنع انتشار فيروس كورونا في العاصمة البلجيكية، انتهى الأمر في بروكسل، برفع ممثلي القطاع الثقافي دعوى ضد الحكومة، مطالبين فيها باستئناف نشاطهم الفني دون تأخير.
ويبدو أن الحال نفسه في المدن العربية، التي اعتادت أن تشهد حراكاً ثقافياً أيضاً، يتخبط هو الآخر اليوم في دوامة الإغلاق، فبعد استمرار تعليق عمل المهرجانات العربية، كـ قرطاج وموازين وجرش، والتي تأخذ مواقعها سنوياً في تونس والمغرب والأردن، شارف الضيق أن يبلغ حد الانفراج، وبدأت بوادر النور بالظهور في الشمال، إذ تمت إقامة أول حفل تجريبي ضمن الجائحة في شمال إنكلترا، ضم هذا الحفل 5000 شخص، وتزامن مع حفل آخر في برشلونة، تم التبليغ بعده عن ست إصابات، لم يُعرف بعد في ما إذا كان حضورهم للحفل هو السبب في إصاباتهم هذه أم لا. ومن منا لم يسمع عن مهرجان ووهان الذي ضم 11 ألف مشارك بكمامات وبدونها. لا شك بأن الكوكب بدأ بموجة التعافي، لكن لا يوجد تقدير قطعي لمدّتها، ولذا يبدو المستقبل مبشّراً للفنانين بقدر ما هو مربك.
ماذا عن الافتراضي؟
مع هذا الكم من التغيرات المقلقة، يُطرح في بال الجميع السؤال الأصعب، ماذا سيحل بالعروض المباشرة التي اقتات الكوكب عليها موسيقياً لعام كامل بعد أن أصبحت الحفلات والمهرجانات تنظم عبر الإنترنت؟ هل سَتؤتمَتْ حفلاتنا إلى الأبد، أم أننا سنعود لنحيا معها في الفراغ الملموس؟
أشار تقييم اليونسكو إلى أنّه كان لجائحة كوفيد-19، دور في الإسراع بالتغيير إلى الافتراضية، إلا أنها استبقت خمس سنوات من التقدم في غضون ثلاثة أشهر! ومن هنا، تُذكّر وثيقة اليونسكو التوجيهية بأنّ 46٪ من عدد السكان في العالم غير متصلين بالإنترنت، الأمر الذي يجعل شخصاً واحداً تقريباً من بين كل شخصين بعيداً عن الوصول إلى هذا العالم الافتراضي، من دون أن نتطرق إلى من يستطيعون الاتصال بالإنترنت ولا يستطيعون ببساطة تحمل رفاهية التذاكر الافتراضية، أو من لم يعتادوا على استخدام الإنترنت بعد. تجعل هذه الحقائق الانتقال الكامل إلى الافتراضية في الوقت الحالي مبكراً، إن لم نقل إنه غير عادل.
قد يبدو الموضوع أكثر قابلية للتطبيق في وقتٍ لاحق، يكون فيه الكوكب أكثر استقراراً ليضع خطة مدروسة لهذه "القلبة" التي قد تتطلب بالضرورة بنية تحتية داعمة، قادرة على مواجهة كل الثغرات الحالية والمستجدة. إننا حقاً نسير إلى طريقٍ لا يفضّله أغلبنا بالضرورة، لكننا محكومون بالجماعة، سنستيقظ قريباً بأسلاك أكثر، ووحدة أكبر.
لا شك بأن الحفلات المباشرة عادت بربح معنوي ومادي على معظم الفنانين الذين ارتادوا هذه الموجة. إذ جعلت الشاشة من حيز الفنان الذي يختاره مسرحاً كاملاً له، يكون في بعض الأحيان حر التصرف فيه إن كان له منصته الخاصة التي يستطيع أن يعبّر من خلالها كما يحلو له. كما عزّزت هذه الخطوة من استقلاليته أحياناً، وفهمه لما يدور حوله بشكل أفضل، وعادت على بعض المتابعين بحظ حضور حفل قد يكون حلماً لم يوفَر لهم الوصول إليه يوماً في الحياة الواقعية.
كان البث المباشر حقاً شريكاً حقيقيّ الأنس، لم تبخل موسيقاه باستذكار الماضي أو استدعاء المستقبل. يكاد كل من ارتاد حفلاً حينها يحمل بذاكرته موسيقى تصورية واحدة على الأقل منه، يمكنها أن تعيده ليومٍ من أيام الحجر القاسية فور سماعها الآن، أو فور لقائه الواقعي بصديقه الجديد الذي تعرّف عليه من بثٍ مباشرٍ لفنّانه المفضل. كان لهذه الحفلات الافتراضية النصيب الأكبر حقاً من السعادة وتمديد الشعور بالوحدة. لكن هل عوّض البث المباشر تماماً ما افتقدناه مع الحفلات الحية؟
إن الإجابة الحقيقية عن هذا السؤال ستعيدنا بالضرورة إلى الأسباب التي كانت تدفعنا لحضور الحفلات الحيّة، وأهمها الإحساس بالاتصال مع مجموعة أكبر من البشر، مؤدين كانوا أم جمهوراً، عبر الحضور المشترك في نفس المساحة الفيزيائية، وما يلي ذلك من التفاعلات الاجتماعية بين كل هؤلاء، سواء ساهمت بتغيير مسار الحفل أو توجت بارتجالٍ ما، لم يكن ليتم في أي ظرفٍ آخر.
ومع تنوّع الزوايا التي يمكن النظر منها إلى هذا التساؤل، فلا شك بأن الافتراضية صادرت من الحضور هذه العناصر، فهي حتماً لم تحمل معها نفس المشاعر، لكن اختلاف التجربة لا يعني بالضرورة نكران عوائدها. الروح هي حقاً ما يجذبنا إلى المسارح، والروح لن تُزرع يوماً في الشاشة، كما نعرفها اليوم على الأقل.
وتماشياً مع خطط المستقبل وتفاؤلها الحذر، أعلنت الحكومة الألمانية تخصيص مبلغ 2.5 مليار يورو لدعم قطاع الثقافة و"تشجيع" معاودة العروض والأنشطة بعد التوقف بسبب الجائحة في البلاد، كما ضخّت الحكومة الفرنسية في هذا الإطار 11 مليار يورو لدعم قطاعها الثقافي. إذ لا جدوى الآن من التحرّك من دون الحصول على الدعم المالي من الحكومات التي هرعت لإنقاذ القطاع الثقافي من الإفلاس، رغم أن ضعف تمويل هذا القطاع يبدو جزءاً من مشكلة بنيوية قد تكون جائحة فيروس كورونا ساهمت بتسريعها أيضاً، أو كشف وجهها الواضح، ويتطلّب التأكد من عدم تكرار آثارها شكلاً بديلاً من التعاطي مع هذا القطاع.
قد ينتهي هذا التشويش، على الأرجح، بإغراق قطاع الحفلات الحية تحديداً في المزيد من الحيرة، إذ لن تجازف المهرجانات الصغيرة والمستقلة بالمضي قدماً من دون حصولها على ضمان تأمينها مالياً في حال أُجبرت على إلغاء فعالياتها مجدداً بسبب فيروس كورونا. ويعني ذلك، أيضاً، أن العاملين في قطاع الموسيقى الحيّة يواجهون صيفاً آخر بلا عمل. وفي هذه الأثناء لا يوجد دلائل واضحة إن كان الفنان سيُكمل طريقه الافتراضي -غير المعبّد- كما إخوته مخيراً أو مسيّراً، لكن التمني، وكل التمني يبقى وحده لبقاء الفنان فناناً من دون القنوط.