كلماتٌ قليلة تُسمَع في 80 دقيقة، يُردّدها أناسٌ في يوميات عيشٍ في مدينتين، تختلف إحداهما عن الأخرى: لندن وبغداد. لقطات ثابتة لأمكنةٍ محدّدة، تبدو قريبة جداً من منزلِ من يُصوّر تلك "الأحداث" اليومية، المتشابهة في المدينتين، كما في تكرار بعضها، على الأقلّ.
ثبات الكاميرا أساسيّ، فالنص السينمائي في "أعيش هنا وأتنفّس هناك (2023)، جديد العراقي قاسم عبد، مبنيّ على سردٍ بصري صامت لأفعالٍ خاصة بأفرادٍ، في روتين يومياتهم/يومياتهنّ، في شارع أو أكثر من شارع بقليل. أفرادٌ من أعمار عدّة، واهتماماتٌ ومشاغل، وفصول متلاحقة، يجهد عبد في التقاطها من دون أي إضافةٍ، تقنية أو فنية أو جمالية أو درامية.
تَتابعُ اللقطات، المُسجّلة معها أصوات واقعية (مطر، تزفيت طريق، قطع أشجار وحفيف أوراقها، بناء عمارة، أصوات باعة وهذا حاصلٌ في بغداد، موسيقى سيارة تبيع مثلّجات في لندن، إلخ)، يوحي، لوهلةٍ، بأنْ لا شيء حاصلٌ في الفيلم، وبأنّ التكرار يُمكن أنْ يصنع مللاً. إذْ لا شيء يحصل، فعلياً، خارج التكرار اليومي الأقرب إلى روتين جامد، والناس يعبرون، أو يعملون، أو يبيعون، أو "يُدردشون"، أو يرشّون ماءً أمام منازلهم (بغداد)، أو يهتمّون بكلابٍ تنبح (لندن)، أو يمرّون سريعاً.
ثبات الكاميرا، هنا وهناك، يوحي كأنّ الثبات/الجمود/الروتين حاضرةٌ كلّها وراء الكاميرا أيضاً، أي في المنزلين/المكانين اللذين يُصوَّر خارجهما منهما. أيام تمرّ، وأناس يمرّون، وفصول تمرّ، فقط. ثبات الكاميرا، التي تلتقط عدستُها حركةً صاخبةً، وإنْ بدرجات متفاوتة بين المدينتين، يشي بأنّ هناك تمريناً على مدى تحمّل اللاشيء، الذي يتحوّل، تدريجياً، إلى نوعٍ من توثيقٍ بصري لأفعالٍ تُشكِّل، رغم تكرارها وتشابهها اليومي في المدينتين، نواة عيش وحياة وعلاقات ومشاعر واهتمامات.
أي أنّ الثبات/الجمود/الروتين تتحرّر، بهدوء، من ثقلها، لتقول نتفاً من سِيَر أناسٍ، تنبثق (النتف) مما تُصوّره الكاميرا "من دون ملل". فقاسم عبد، باختياره عنواناً غير سينمائيّ لفيلمٍ سينمائي، يُعلن، منذ اللحظة الأولى، أنّ هناك مساراً انفعالياً وتأمّلياً أولاً، يختصّ بالذاتيّ/الشخصيّ، من خلال مراقبة أقرب إلى "التلصّص المُعلَن" (إنْ يصحّ قولٌ كهذا)، وعبر تأمّل يُشبه معاينة دقيقة لتفاصيل وهوامش تصنع حياة.
وإذْ يبدو العنوان (أعيش هنا وأتنفّس هناك) واضحاً للحظةٍ، فإنّ المسار نفسه يُزيل هذا الوضوح، مع تتابع اللقطات/الحكايات/السرديات، فارضاً تفكيراً آخر في المعنى. يقول الوضوح، أو وَهَم الوضوح، إنّ عبد، كعراقيّ يُقيم في لندن، يُشير عبر العنوان إلى حنينٍ/رابطٍ/تواصل ثابت له مع بلده (العراق)، إذْ أنّه يعيش في لندن ويتنفّس في بغداد. متابعة تلك اللقطات/الحكايات، في 80 دقيقة، يمنح المتابع شعوراً بأن الالتباس أقوى من الحسم (وهذا جميل سينمائياً)، وبأن العيش/التنفّس ربما يكونان هنا، أو هناك، أو هنا وهناك في آنٍ واحد.
وفرة التفاصيل والهوامش (أو ما يُمكن أنْ يُظنّ أنّها هوامش) تُعاند روتين اليوميّ والتشابه الحاصل في المدينتين. وفرةٌ تُنبِّه إلى مشتركات فيها (التفاصيل والهوامش)، مع إظهار اختلافٍ في كيفية عيشها واشتغالها، وفي امتلاك كل حيّز جغرافي فضاء خاصاً به: آلية البناء، وأسلوب التزفيت، واستخدام موسيقى محددة في الإعلان عن وصول "سيارة بيع المثلّجات" في لندن، وصوت بائع يُنادي على بضاعته من خضر وفواكه في بغداد.
هذه أمثلة قليلة، والوفرة تكاد تقول هذا في كلّ شيء آخر، تقريباً. إضافةً إلى تبيان نوع الألبسة، فلقطات عدّة تُظهر ما يرتديه المُصوَّرون/المُصوَّرات من ملابس وأحذية (لندن)، بينما تكتفي الكاميرا بتصوير أناسٍ في بغداد بلقطات بعيدة (نسبياً)، بدلاً من لقطات قريبة (إلى حدّ ما) في لندن، لإظهار الألبسة والأحذية.
تعليقان اثنان فقط، مكتوبان باللغة الإنكليزية، يظهران في الدقائق الـ10 الأخيرة: وفاة الجار فايق بسبب كورونا (فبراير/شباط 2021)، وعاصفة Eunice تضرب لندن بقوّة (فبراير/شباط 2022). ندرة التعليقات جزءٌ من البناء البصري، تماماً كغياب الحوار وثبات الكاميرا وحركة الناس وصخب الشارع، رغم أنّ صخب لندن أخفّ وطأة، بقليل، من ذاك الذي تعرفه بغداد، علماً أن الشارع الأساسيّ في بغداد غير ضاجّ كثيراً، كأمكنةٍ أخرى فيها.
"أعيش هنا وأتنفّس هناك" كشفٌ لوقائع عيشٍ ونبضِ حياة وقسوة مصير، في مدينتين فاعلتين في ذات قاسم عبد، وروحه وانفعاله ومشاعره.