تعيش الفئران في مدينة الضباب منذ عدة قرون. ويُقال إنّ هذه القوارض لا تبعد عن أي من سكان لندن أكثر من ستة أقدام. بيد أنّ هذه المقولة، أثارت تساؤلات عن مدى صحتها، وأجرى خبراء البحوث حول هذه المسألة التي تهدّد بمشاكل صحية عديدة، كما كُتبت عنها العديد من المقالات في مختلف الصحف البريطانية، منذ سنوات ولغاية يومنا هذا.
يثبت الجرذ المحنّط الموجود في مبنى الأرشيفات الوطنية، في منطقة كيو في لندن، الذي يُعرف باسم فأر السير هنري كول، الأذى الذي ألحقته هذه القوارض بالمدينة، إذ لا يقتصر فقط على نقل الأمراض، بل على إتلاف وثائق تاريخية هامّة. فخلال فترة عمل السير كول في مكتب سجلات الحكومة البريطانية، اكتشف أنّ الفئران ابتلعت العديد من المستندات أو قضمت أجزاء منها. وكدليل على سوء الأوضاع التي تعاني منها السجلات، استخدم السير كول جرذاً امتلأت معدته بالوثائق الممضوغة لإثبات ذلك.
يعدّ كول رائداً في إصلاح مكتب السجل العام، الذي أصبح يعرف اليوم بالأرشيفات الوطنية.
وتذكر الأحداث التاريخية أنّ الفئران كانت السبب في سلسلة من الكوارث الصحية العامة الكبرى، مثل طاعون الموت الأسود في عام 1348، الذي يعتقد أنه قتل ما يقرب من ثلث السكان في بريطانيا، وأجبر الناس على التفكير بشكل جذري في نظافة الشوارع، من أجل وقف انتشار القوارض، وبالتالي القضاء على المرض. لكن عندما يفكّر الإنكليز في فئران الشوارع في لندن، يخطر على بال معظمهم "طاعون لندن العظيم" الذي ضرب المدينة خلال القرن السابع عشر وقتل ما يقارب 100 ألف شخص، وهو ما كان يعادل ربع السكان آنذاك.
أمّا اليوم، وفي حين أن المخاطر الصحية على الجمهور لم تعد كبيرة كما كانت منذ قرون عديدة؛ فإن الحقيقة تبقى أن الفئران لا تزال تحمل العديد من الأمراض الخطيرة، بما في ذلك داء السالمونيلا والسل والإشريكية القولونية. وبصرف النظر عن الأخطار الجسدية، يعاني كثير من الناس من مشكلة الخوف من الفئران والجرذان، التي تعرف غالبًا باسم "الموسوفوبيا"، وهو أكثر أنواع الرهاب المحددة شيوعًا، ويمكن أن يسبب قدرًا كبيرًا من الضيق للمصابين به.
وبحسب تقرير بعنوان "أرض الفئران"، صدر عام 2017؛ فإن عدد القوارض في العاصمة آخذ في الازدياد، وقد تلقّت السلطات المحلية وشركات مكافحة الآفات في لندن، أكثر من 186 ألف شكوى على علاقة بالقوارض على مدى السنوات الخمس التي سبقت التقرير، ما يعني أكثر من 100 شكوى في اليوم، ويبدو أنّ المشكلة تزداد سوءًا.
بحسب تقرير بعنوان "أرض الفئران"، صدر عام 2017؛ فإن عدد القوارض آخذ في الازدياد
ولسوء الحظ، توفّر لندن على وجه الخصوص بنية تحتية حضرية مترامية الأطراف بكثافة سريعة النمو، تزدهر فيها ظروف الفئران. ويساهم مستوى نظافة الشوارع، الذي يشار إليه رسميًا باسم "الصحة البيئية"، في قدرة مجموعات القوارض على التكاثر والازدهار.
وفي عام 2016، كتبت صحيفة ذا غارديان عن مخاطر الجرذان في لندن، وتحدّثت إلى ستيفن باترسبي، مستشار الصحة البيئية والإسكان، الذي أجرى أبحاثًا حول انتشار الفئران في بريطانيا لعقود. وقال وقتها، إنه يمكنك معرفة مدى قربك من الفئران من خلال إيجاد عدد هذه الكائنات الموجودة في المناطق الحضرية. كما قدّر أن هناك قرابة عشرة ملايين جرذ في مدن وبلدات المملكة المتحدة. بيد أن ديفيد كوان، القائد العلمي في المركز الوطني لإدارة الحياة البرية في ساند هوتون، ناقض هذه الإحصائيات وقال إن هناك ما يقارب 1.5 مليون فأر إجمالاً في بريطانيا، داخل منازلنا أو حولها. وأضاف أنّ هناك ايضاً ما يقرب من 1.6 مليون فأر في أنظمة الصرف الصحي لدينا، و200 ألف بالقرب من المناطق التجارية. وقال إن إجمالي عدد الفئران في المناطق الحضرية "في اتجاه الشارع" يتراوح بين 3 و3.5 ملايين في جميع أنحاء المملكة المتحدة.
ووفق أرقام كوان، أنت لست على بعد ستة أقدام من الفئران في المراكز الحضرية البريطانية، بل ربما قرابة 164 قدمًا، بينما بحسب الدكتور باترسبي قد تكون على مسافة 10 أقدام أو 15 قدمًا من القوارض في المناطق الحضرية المتهالكة، لكنّه يؤكد أنّه من المستحيل معرفة ذلك على وجه اليقين، ويحث على توخي الحذر قبل القفز إلى الاستنتاجات.
تعود مقولة "أنت على بعد ستة أقدام من جرذ في لندن"، إلى الواجهة مع بداية الشهر الجاري، حيث كتب عنها موقع "ماي لندن"، الذي تواصل مع "وزارة البيئة والغذاء والشؤون الريفية"، التي قالت إن الحكومة لم تحتفظ ببيانات عن عدد الفئران في المملكة المتحدة، لكنّها أشارت إلى أنّ تقرير عام 2018 الصادر عن "Natural England"، قدر عدد الفئران البنية (النوع الرئيسي) في بريطانيا بقرابة سبعة ملايين.
ووفق بيانات جديدة صادرة عن الرابطة البريطانية لمكافحة الآفات، ازدادت مشاهد الفئران في جميع أنحاء لندن، خلال الوباء، حيث تظهر الأرقام الأخيرة أيضًا أنه كان هناك 30 مليون فأر زيادة في البلاد في عام 2020 مقارنة بعام 2019.
وعلى الرّغم من مرور قرون من الزمن على مشاكل الفئران، واجتياحها مدينة الضباب، فهي لا تزال مشكلة خطيرة للغاية حتى يومنا هذا