أُنتج فيلم "أحلام" للياباني أكيرا كوروساوا عام 1990، عندما كان المخرج في الثمانين من عمره، وبعد خمس سنوات من إخراج تحفته السينمائية "ران"، المأخوذة عن مسرحية الملك لير لشكسبير. ويبدو أن أحلامه جاءت متأخرة جداً، أو أنه أرجأها أكثر مما يجب، الأمر الذي يفسّر "منطقيتها" وتماسكها وذهنيتها، بمعنى أنها أفكار أو هواجس أكثر ممّا هي أحلام، وإن كانت تُسرَد باعتبارها كذلك.
جاء الفيلم في ثماني حركات أو أفلام قصيرة، تبدأ بفيلم بديع عن طفل يخرج من بيته ولا يعود إليه أبداً.
إنها تمطر والشمس ساطعة، بينما هو على بوابة البيت. تقول له أمه إنّه موسم زفاف الثعالب، وإن عليه ألّا يذهب ليراه. لكن التحذير يصبح نداء غواية وهوساً بالمعرفة. يخرج الطفل إلى الغابة ويشاهد ما هو محرم رمزياً. وعلى طريقة عروض الدمى اليابانية، يقدّم كوروساوا الثعالب وهي تحتفل بالزفاف، وخلال ذلك ينتبهون للطفل الذي يعود إلى البيت. هناك تعطيه أمه خنجراً ليقتل لنفسه، وتطلب منه لتجنّب هذا المصير أن يذهب إلى الثعالب ويعتذر منها، وهي غالباً ما ترفض الاعتذار كما تقول له.
ينتهي الفيلم بعودة الطفل إلى الغابة تحت قوس قزح، حيث يفترض أن يلتقي الثعالب ويعتذر منها. المشهدية باذخة بكادرات كبيرة وألوان قوية وغموض ملغز، حيث هناك ما هو ميثولوجي يخص الثعالب في الإرث الياباني وارتباطها بمواسم الخصب والتحوّل الجنسي، إضافة إلى أنها كانت آلهة تُعبد في إحدى الحقب التاريخية. بهذا، يفتتح كوروساوا فيلمه بالتحريض على طرق أبواب المحرّم، وكل معرفة هي انتهاك للمحظور والمحرّمات.
لا تعتزم هذه المقالة سرد الأفلام الثمانية في "أحلام" كوروساوا وتحليلها، بل التوقف عند الجزء الخامس المعنون بـ"غربان"، عن حلم رسّام شاب بالرسّام الهولندي فان غوغ (1853-1890)، أخذاً بالاعتبار أن كوروساوا نفسه كان رسّاماً في شبابه، وأنّه حاول الانتحار بعد فشل أحد أفلامه المبكرة، ما يجعل التقاطع بين الرجلين كبيراً.
يدخل كوروساوا عوالم الرسّام الشهير بين لوحتين إذا شئت، هما "جسر لانغلو في آرل" (1888) و"حقل القمح مع الغربان" (1890)، وقد توفي بعد 19 يوماً من إنجاز اللوحة الأخيرة، التي يعتبرها كثير من النقاد آخر لوحة مؤرخة للفنان الذي أطلق النار على نفسه في أحد حقول القمح في الريف الفرنسي.
يفتتح الفيلم على الرسام الياباني في معرض لفان غوغ. تتجوّل الكاميرا ببطء، فتظهر أولاً لوحة بورتريه للفنان، ثم لوحة "ليلة النجوم" فلوحتا "عبّاد الشمس" و"حقل القمح مع الغربان"، بعد ذلك يتوقف الشاب أمام لوحة "جسر لانغلو في آرل"، وما هي إلا هنيهات حتى يصبح داخلها فعلياً، وقد أصبحت تضجّ بالحياة. يسأل الرسّام النساء الريفيات اللواتي يغسلن الثياب تحت الجسر عن مكان فان غوغ، فتشير إحداهن إلى المكان، لكنها تحذره بأن الفنان كان في مصحة للمجانين.
يمشي الفنان الشاب داخل حقول تشبه تماماً تلك التي كان يرسمها فان غوغ، حتى يعثر عليه وهو يعتمر قبعته ويرسم، بينما يضع ضماداً على وجهه بسبب قطع أذنه. ويدور بينهما حوار قصير يختصر فلسفة فان غوغ في الفن، فليس المشهد الذي يبدو أنه لوحة يعني أنك أنجزت لوحة، فعليك أن تتغلغل في جمال الطبيعة من الداخل. وكما في الأحلام، فإن المشهد يرسم نفسه إذ ذاك من أجلك.
بعد ذلك، يعتذر فان غوغ من الرسّام الياباني، لأن الوقت ينفد سريعاً، ويضع حامل الرسم على كتفيه ويغيب في طريق ضيقة يصعد فيها إلى الأعلى وسط حقل القمح حتى يختفي. ومع اختفائه تبدأ الغربان بالتحليق فوق الحقل وهي تطلق نعيبها، وما إن يحدث ذلك، حتى تعود بنا كاميرا كوروساوا إلى الفنان الشاب في المعرض يتأمل لوحة "حقل القمح مع الغربان".
الفيلم جميل، وأدى دور فان غوغ فيه المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي تحيةً لكوروساوا. ولعل "الغربان" كان تحية من كوروساوا العجوز لكوروساوا الشاب أكثر منه حلماً: كان يريد أن يكون رسّاماً ففشل، أن يكون فان غوغ ثانياً فأخفق، فلجأ إلى السينما، وكان له ما أراد، بألوانه الحارّة مثل ألوان الفنان الهولندي، وبكادره الكبير، ومشاعر أبطاله المضطربة كضربات ريشة فان غوغ.