فرانز ليست... فارس الموسيقى الهنغارية

30 أكتوبر 2022
كاريكاتير لفرانز ليست نُشر في عام 1886 (Getty)
+ الخط -

إن سُئلت العامة، أو حتى شريحة من مستمعي الموسيقى الكلاسيكية، عن هوية المؤلف من القرن التاسع عشر فرانز ليست (Franz Liszt / 1811-1886)، الذي تصادف في شهر أكتوبر/ تشرين الأول ذكرى ميلاده، لأجاب كثيرون بأنه ألماني، أو نمساوي. أولاً، الاسم يوحي بأنه جرماني. ثانياً، كلّ من مسقط رأس المؤلف، قرية رايدينغ Raiding في النمسا اليوم، ومرقده، مدينة بايرويت في ألمانيا، أمكنة تقع في الفلك الجرماني من القارة الأوروبية. ثم أن ليست، حينما كان طفلاً، لم يكن يتكلم اللغة الهنغارية أصلاً.

كل هذا لن يبدو مُربكاً إذا نظر المرء إلى الخريطة الأوروبية قُبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى، سنة 1918. حينها، كانت الحدود التي تفصل الكيانات الجيوسياسية، من ممالك ودويلات وإمبراطوريات، أكثر سيولة وأقلّ حدّة لجهة فصلها للمجموعات البشرية على أسس هويّاتية وثقافية، كاللغة والدين والموروث الشعبي. فقرية رايدينغ مثلاً، حيث وُلِد فرانس ليست، كانت تابعة لحاكمية شوبرون ضمن أراضي المملكة الهنغارية، مع أن سُكانها لم يكونوا يتكلّمون سوى اللغة الألمانية، وذلك قبل أن يُضم الإقليم الغربي كُليّاً إلى النمسا.

تلك السيولة الجيوسياسية، التي ميّزت أوروبا قُبيل الحربين، أنتجت نمطاً للتعددية الثقافية، وإن ضمن النطاق الأوروبي، كان فرانز ليست واحداً من نماذجه البرّاقة، حيث أمكن للمُثقّف آنذاك أن يُلمّ بأكثر من لغة وثقافة؛ فإما أن يُقدّم نفسه بصفته كوزموبوليتياً عابراً للحدود، أو أن يختار له هويّةً قوميةً وفق ما يميل إليه ويشاؤه، أيّ وفق مرويته الشخصية، وليس وثائقه الثبوتية.

هكذا، كتب ليست ذات مرة: "أنا هنغاري. ولا أعرف أيّ متعة أشد من تقديمي إلى بلدي ببالغ الشرف، أولى الثمار التي جنيتها خلال فترة تعليمي وتطوري، مُفعمةً بالعاطفة والعرفان، وذلك قبل رحيلي للإقامة في فرنسا وإنكلترا؛ عسى أن يمنحني كلٌّ من العمل الدؤوب والترحال ما يرتقي به أدائي إلى ما هو أعظم كمالاً، ولعله يُنزلني مرتبة، أغدو من خلالها غصناً يُزيّن فخرَ بلدي الحبيب".

وبما أن المؤلف الهنغاري كان نجماً متألقاً في عصره، فقد بادلته هنغاريا بدورها، بشعبها وحُكّامها التقدير والتبجيل. إذ عُرف ليست حول بلدان القارة الأوروبية كأبرع العازفين على آلة البيانو، وحقق شهرة كاسحة في العواصم الأوروبية الكُبرى. لذا، فإن الحكومة الهنغارية حديثة العهد حينذاك، عقب استقلالها عن النمسا، عمدت إلى الاستثمار في شهرة ليست وولائه المُعلن لهنغاريا. في سنة 1840، قلّدته "سيف الشرف المجري" والموسيقي الشاب لم يزل في سن التاسعة والعشرين.

قام شاعرٌ هنغاري معروف بنظم قصيدة تحت عنوان "نشيد إلى فرانز" (نسبة إلى فرانز ليست) لا تزال تُلقّن في المدارس الهنغارية. في عام 1876، عُيّن ليست رئيساً للمعهد الهنغاري الأعلى للموسيقى، حيث رفض أن يتقاضى على المنصب الفخري أيّ أجر.

توّج ليست حبّه لهنغاريا من خلال تحفة موسيقية ألفها بعنوان الرابسودي الهنغاري رقم 2، وصارت المقطوعة الأشهر للمؤلف على الإطلاق. والرابسودي رقم 2 تعود إلى سلسلة من أعمال تحمل الاسم ذاته، بلغت التسع عشرة مقطوعة، ظلّ ليست يشتغل عليها حتى رحيله. قد نظر إليها على الدوام بوصفها حلقة إنتاجية مرتبطة ومتكاملة. من خلالها، سخر جهداً طويلاً للبحث في الأصول الشعبية للموسيقى الهنغارية. إذ شكّلت موسيقى الغجر الأوروبيين، المعروفين بـ"روما"، والذين يتركّزون في وسط وشرق القارة، النبع الذي استقى منه المؤلف شكل الرابسودي، وكثيراً من مضامينه.

أحد الأشكال الرئيسية للموسيقى الغجرية، التي أُلّف وفقها الرابسودي، هو الـ تشارداش Csárdás. وتلك رقصة هنغارية معروفة بين الغجر. كانت تُستهلّ بقسم بطيء مهيب يدعى "لاسان" (Lassan)، من خلاله تُحفّز لدى المستمع مشاعر الأهبة والتشويق. يتبعه، قسم حيوي سريع، يدعى "فريسكا"، على إيقاعه تُقام رقصات ذات خطوات رشيقة وحركات معقدة. بذلك، تبدأ الرابسودي رقم 2 بمقدمة متأهبة، مُنفلتة الإيقاع، حادة النبضات، وقورة في سير نغماتها. أشدّها تأثيراً تلك المنخفضة (سي بيمول)؛ إذ تبث في اللحن الروح المقامية الشرقية، التي تحمل معها الطابع الغجري.

ثم يبدأ الـ"لاسان" القسم الأوّل والبطيء من رقصة التشارداش، عماد الرابسودي، حيث يطرأ على الإيقاع المتمهّل توتّرٌ  تدريجيٌ، تُثيره عناقيد النغمات الخاطفة والملتهبة، وأزواج القرار والجواب التي تعزف بتزامنٍ، وبإبهام وخنصر يدٍ واحدة (أوكتاف). من شأن ذلك أن يُساهم في تأجيج الحدث الموسيقي، الذي يستمرّ على الرغم من ذلك متمهّلاً، أشبه بمسير جنائزي. ضمن قسم الـ"لاسان" البطيء، سيُمهّد ليست للحن القسم الثاني، وذلك بالإشارة العابرة إليه، عبر حُقَنٍ لحنية متسارعة، تساعد على الاحتفاظ بالوحدة البنبوية للعمل، سيراً على التقليد الموسيقي الألماني خلال القرن التاسع عشر، والذي أسس له المؤلف الرومانتيكي الأول بيتهوفن.

سيُعلن عن دخول القسم الثاني السريع "فريسكا"، وذلك عند تغيير مقياس السرعة الإيقاعية، وتقاطر عناقيد نغمية متتالية على مستويات مرتفعة، ستقود إلى سلسلة من الرقصات الحماسية، تتنافس في ما بينها لجهة المهارة التقنية التي تتطلبّها. أبرزها طرقات القرار والجواب المتزامن، التي تؤديها كلتا اليدين، بثنائي إبهام اليد وخنصرها.

عبر تلك الحيلة، لا يُباهي ليست بقدراته العزفية فحسب، بل إنه يستلهم أسلوب العزف بزوج المطارق الخشبية على آلة الشيمبالوم Cimbalom الشائعة في وسط وشرق أوروبا، وبين غجر الروما تحديداً، التي قد تعود بجذورها إلى آلة السنطور القديمة المعروفة في بلاد الرافدين وفارس.

أما الخاتمة، أرادها ليست متباطئة، ذات طابع ارتجالي، مرسل النظم الإيقاعي. في إشارة من جهة، إلى طرائق العزف التقليدية التي يتبعها العازفون الغجر، ومن جهة أخرى إلى الإمساك بعنصر المفاجاة قبل إنهاء المقطوعة برشقات ملتهبة من نغمات تستدعي من جمهور المستمعين إطلاق الأكف في تصفيق حار يدوم طويلاً.

تبدو الرابسودي رقم 2 نموذجاً مبكراً لما سيُعرف في أوروبا النصف الأخير من القرن التاسع عشر بالموسيقى القومية. إذ إنها، ومع احتفاظها بطرق المعالجة الفنية التي ميّزت الموسيقى الأوروبية في تلك الفترة، تحمل في كلّ من الشكل التأليفي والمضمون اللحني عناصر محلية، من أغانٍ ورقصات شعبية.

شكّلت موجة الموسيقى القومية، أواخر القرن التاسع عشر صدىً للانتقال الجيوسياسي في أوروبا، من سيولة الحدود إلى تبلورها، تمهيداً إلى ظهور شكل الدولة القومية الحديثة، وذلك على رُقاد الممالك، الدويلات والإمبراطوريات التي تعاقبات وتناحرت في أرجاء القارة على مدى القرون الأربعة السابقة. معها، لم يتخل الفنانون الأوروبيون كلياً عن المظهر الكوزموبوليتي العابر للحدود، ولا عن الروح العالمية (Universalism) التي ميّزت الفكر والثقافة الأوروبيين منذ حركة التنوير في القرن الثامن عشر، بل جمعوها بنزعة قومية محليّة وجدت في الموروث الشعبي مصدراً لهوية جديدة عصرية.

المساهمون