"بطل هذا الزمان" فيلمٌ يجذب من عنوانه، لكنّه لا يكتفي بهذا، بل يشدّ مشاهده من البداية حتّى النهاية، مأخوذاً بشخصية أصبغ عليها صانعاه صفة بطولة، تستحقّها بكلّ جدارة.
"بطل هذا الزمان" (2022) وثائقيٌّ للبلغاريين سْفتْلا تسوتسوركوفا وزفتوسلاف أُفْتشِروف، عُرض في قسم "آفاق مفتوحة"، في الدورة الـ24 (10 ـ 20 مارس/آذار 2022) لـ"مهرجان سالونيك للفيلم الوثائقي". للمخرجَين أفلامٌ روائية عدّة، وتأثير هذا تجلّى في فيلمهما الجديد. بين الروائي والوثائقي فرقٌ كبير، يكمن في عدم وجود ممثل لشخصية تتحاكى مع شخصيات أخرى. هنا، يظهر البطل كأنّه ممثل في فيلم اجتماعي، مبني على شخصية رئيسية. في لقطات ولحظات ومواقف من حياته اليومية، يُركّز الفيلم بعمق على نمط تفكيره، ويُبدي أسلوب تفاعله مع من حوله من كائنات، بشرية وحيوانية، ومع محيطه من طبيعة ومواد. إنّه كشخصيةٍ في فيلم روائي، وإنْ بدا الفيلم توثيقاً لها.
ساكنٌ بسيط من سكّان الريف البلغاري الفقير. شخصية محلية ذات أبعاد إنسانية شاملة، تدعو إلى التأمّل في الحياة المعاصرة، وفي سُبل عيش هؤلاء الذين يبتعدون عنها، لكنّها تلاحقهم، أقلّه بتأثيراتها السلبية. جورجي، مقاول بناء في قرية بلغارية، صادق ومباشر، تتعارض قيمه ونظامه الأخلاقي، غالباً، مع المجتمع المعاصر. ينظر إليه البعض كإنسان غريب في أقواله وسلوكه وفلسفته في العيش كرجلٍ متمسّك بمكانه، وحذرٍ من الدولة وهيئاتها الرسمية، وحكيمٍ ينطق عند كل موقف بحكمة، بكلّ بديهية وتلقائية وطرافة، ويعرف تماماً كيف يتعامل مع الآخرين، ويتفهّم عيوبهم ومزاجهم. صبورٌ، حتّى الحمار يلين أمامه، ويتخلّى عن حَرنه.
جورجي مُصرّ على البقاء في قريةٍ، هجرها معظم شبابها. يستخدم من يتاح له من عمّال، لمساعدته في عمله اليومي الشاق. متفهّم لظروفهم. استخدم ابن أخته الشاب، مع أنه تعلّم في المدرسة. يُدرك أنّ نوع عمله، اللازم والحقيقي، لا يقترب منه المتعلّمون، لكنّ ابن أخته، الذي تردّد على المدرسة سنوات عدّة، "لم يستطع أنْ يحفظ منها إلا الطريق المؤدّية إليها"، كما قال جورجي بواقعية، فيها كثيرٌ من الدعابة. العامل الثاني لا يكفُّ عن احتساء البيرة، ورغم أنّه تحمّله لأعوام، وتقبّل عيوبه، تركه، لأنّه "حقّق حلمه" أخيراً، كما علّق جورجي، فهو الآن يعمل في بار في المدينة، و"يحصل على البيرة من الحنفية، كما حَلِمَ دائماً".
الشعور بأنّ عيش حياة حقيقية مرتبطٌ بعدم الثقة في الدولة والشركات التجارية الكبيرة
هكذا يحلّل ويُفسّر ويُعلّق على الأحداث، من دون نبرة مأساوية أو شاكية، بل متفهّمة ومتقبّلة لأمر لا يستطيع حياله شيئاً. إنّه يتفهّم صديقه العائد من إنكلترا، الذي بدأ يتذمّر من، ويتكبّر على الوضع في القرية: "هنا ليست إنكلترا"، يردّ عليه. جورجي بطل: أنْ تعيش حياتك بكرامة، ومن دون تنازلات، في عصرنا، فهذا أمر بطولي. هكذا يقدّمه الفيلم، وهكذا يراه من شاهده. من هنا سرّ قوّته ونجاحه.
هذه الشخصية تضع نفسها، بكلّ طواعية، في خلفية الحياة الاجتماعية الحضرية، وأيضاً ما يدعى "النجاح" فيها. هذا ربما يجعل المرء يُفكّر في الفلاّحين العجائز في الغرب، الحذرين من الحداثة. لكنّ حياة البطل، ومن دون أنْ يعرف ذلك، بلا شكّ، تبدو كأنّها تنويعٌ على توجّه معاصر للغاية، يتمثّل في الانسحاب من الحياة الحديثة، والسعي إلى الاكتفاء الذاتي. كما الشعور بأنّ عيش حياة حقيقية (أو ربما، مُستقبلاً، من أجل البقاء، بكل بساطة) مرتبطٌ بعدم الثقة في الدولة والشركات التجارية الكبيرة.
أفكارٌ تُلهم أيضاً المحافظين الأميركيين المناهضين للدولة، المعروضة في الوثائقي الأميركي "أميركا" (2018) لكلاوس دريكسل، والقريبين أحياناً من اليمين المتطرّف، وأولئك الساعين إلى البقاء أو النجاة من كوارث العصر، أكانوا مُسيّسين أم لا.
كلّ هذه الحركات والدعوات، مع أيديولوجيات مختلفة للغاية، بل متعارضة، تدعو إلى الابتعاد عن المدن، وترشيد الاستهلاك، والعمل اليدوي، والاعتماد على الذات فقط. هذا ما يُلاحَظ حالياً في صناعة الترفيه الغربية، التي تدرس ميول المجتمع، والتي بدأت تُنتج برامج من نوع "تلفزيون الواقع"، خمّنت أنّها ستكون ناجحة، لأنّها تستجيب لتطلّعات عميقة لمعاصرين عديدين، كونها تُبرز عائلات تسعى إلى الاكتفاء الذاتي، بعيداً عن المدن، كالمسلسل المشهور "وحدنا في مواجهة ألاسكا".
المدهش في "بطل هذا الزمان" كامنٌ في ميولِ شخصيةٍ لا تعيش في بلدٍ، دفع الاستهلاكُ المفرط فيه الناسَ إلى إدراك هشاشة النماذج الاقتصادية العالمية. جورجي ليس مناضلاً مسيّساً، بل ببساطة رجل يسترشد بالأخلاق والضمير.
إذا كانت اختيارات جورجي، من دون علمه، تتماشى مع اتجاه معاصر للغاية، فإنّ أخلاقَه أخلاقُ الفلاّحين القدامى، في الاعتماد على الذات، والعمل، وجعل الذات مفيدة، والحفاظ على الكرامة. ربما يكون الوعي بالكرامة الإنسانية ما يربط بين هذه المواقف: ليس من الكرامة الاعتماد على دولةٍ، بشكلٍ يجعل المرءَ تابعاً لها، وليس من الكرامة أنْ يعيش المرء في الحلم من دون مواجهة الواقع (أي العمل الحقيقي والمتعِب واليدوي، لا عمل الشركات، القائم على أشياء هشّة)، وأنْ يتخلّى عن بلده ليُثري نفسه في مكانٍ آخر.
جورجي يرفض أيّ فكرة عن الهجرة، في بلدٍ يفرغ من رجاله، بسبب الانجذاب نحو دول الاتحاد الأوروبي والغرب. يشرح السبب بعبارة "لا أريد أنْ أصبح فخوراً"، بمعنى "متكبّراً". ماذا يعني "الفخر" في هذه الحالة؟ إنّه لا يريد أنْ يفقدَ كرامته الأخلاقية، فالفخر عكس الكرامة الحقيقية. "الشعور بالفخر" يعني أيضاً الابتهاج بالنجاح الهشّ، الذي لا يقوم على شيء. لماذا هو هشّ؟ الشخصية، التي لا تخطب عن الأزمة البيئية أو نهايات العولمة المسدودة، لا تستطيع أنْ تقول السبب، لكنّها تشعر بذلك.
يشعر جورجي أنّ النجاحَ الهشّ، الذي من دون أسس، ذاك الذي لا يعتمد على العمل الحقيقي، في بلده الحقيقي، لكونه مُفيداً حقّاً في الواقع، ولمجتمعه.
في هذا، تنكشف عقلية قديمة، لكنّها تلبّي الاهتمامات الحالية في العالم المعاصر. هذا ما أدركه الإخراج، الذي اختار هذا الموضوع، ما يجعل المُشاهد يتعلّق كلّياً بهذه الشخصية، وبوصف حياتها.