في محاولة لتأريخ اللحظة الراهنة بدقة، يمكن القول إنها مرحلة لا تزال شهيتها مفتوحة للـ"التاريخ البديل"، ذاك الذي يدفع بأسئلة مثل "ماذا لو؟" ويمكن أن نلحظها في أعمال مثل The Man in The High Castle أو The Plot Against America، أو عدد من أعمال كوينتين تارانتينو، فضلًا عن عدد لا بأس به من الروايات والأعمال الأخرى التي ترسم لها نقاط انحرافٍ عن تاريخنا الذي نعرفه، أو نجمع على معرفته بكل حال.
تتشارك هذه الأعمال بشكل أو آخر نقطة انطلاق واحدة، فهي أميركية - وإن كان جمهورها ذا طابع عالمي - وتعمل بالمقام الأول كاستجابة للحاضر الأميركي ومخاوفه. لكن كيف يمكن أن يبدو هذا التاريخ من منظور آخر؟
في فيلمه El Conde أو "الكونت"، يقدم المخرج التشيلي بابلو لارين إجابة عن هذا السؤال وآخر يمكن القول إنه لم يطرح كثيرًا: ماذا لو كان أوغستو بينوشيه مصاص دماء زوّر موته عام 2006؟ بالطبع، لعب توقيت صدور الفيلم في الخامس عشر من سبتمبر/ أيلول الماضي دورًا في ما يحاول قوله، إذ صادف الحادي عشر من سبتمبر هذا العام الذكرى الخمسين للانقلاب العسكري الذي قاده بينوشيه ضد سلفادور أليندي عام 1973، مدخلًا البلاد في مرحلة دموية لم تشف كامل جراحها حتى اليوم. ولا يزال شبح بينوشيه يحوم فوقها. ليس بينوشيه أول رئيس يدخل عالم التواريخ البديلة ومصاصي الدماء، إذ سبقه أبراهام لينكولن في "أبراهام لينكولن صياد مصاصي الدماء". إلا أن مقارنة العملين وما يضعه كل منهما على المحك، ستكون مضيعة للوقت، فما الذي حمله هذا الفيلم؟
يقدم الفيلم أولى شخصياته على هيئة معلِّقة لا نراها ونسمع صوتها فقط. تتحدث المعلقة في هذا الفيلم التشيلي الإنكليزية بلكنة بريطانية، وتقدم لنا بينوشيه. نعرف أنه كان جنديًا في فرنسا في القرن الثامن عشر حين بدأ ولهه بالدماء، وتخفى بعدها كثوري في الحركة التي أطاحت بلويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت، التي حرص على نبش قبرها للاحتفاظ برأسها المقطوع كدليل على وفائه.
ينكشف أمر بينوشيه، لذا يزوّر موته للمرة الأولى ويبحث عن وجهة جديدة ليتجه صوب تشيلي، وينقلب على رئيسها بعد أن أعطاه الوعد بالوقوف إلى جانبه. تمضي الحكاية بشكل شبيه بما نعرفه حتى نصل إلى نقطة فراق: لم يمت بينوشيه، بل ادعى ذلك واختفى بعدها في منطقة نائية رفقة زوجته المخلصة وخادمه الروسي فيودور، بعد أن جرحه الشعب واتهمه بالسرقة.
يفقد الكونت الرغبة بالحياة، وينقطع عن شرب الدماء - التي يستخلصها فيودور بالعادة من القلوب المجمّدة في ثلاجة ويقدمها كـ"سموذي" - ما يدفع الأسرة للقلق حيال موته، من دون الكشف عن ممتلكاته التي لم يفصح عنها. إلا أن الحبكة الحقيقية للفيلم تبدأ بالتحرّك بعيد سلسلة من الجرائم، التي يرتكبها مصاص دماء يرتدي حلّة الجنرال، يتزايد قلق الأسرة بأكملها من عودة الأب لاصطياد الضحايا وتبعات ذلك على الوصية المنتظرة. وهنا تتسع الأسرة لتشمل أولاد الجنرال، وهم مجموعة من البالغين المدللين الذين يشبهون أولاد أي ملياردير مدني من ناحية التركيب، ويختلفون قليلًا في نوع جرائم الآباء التي سيدافعون عنها بكل حال.
تدخل راهبة من الكنيسة التشيلية على الخط، متخفية كمحاسبة قدِمت لتحصي أملاك الأسرة كاشفة في استجواباتها عن منطق الأسرة الأعوج. إلا أن الراهبة تصبح هي الأخرى مدعاة للقلق بعد إعجاب الجنرال بها، لتتكشف معها الخفايا من خيانة الزوجة وفيودور، الذي يتضح أنه مصاص دماء أيضًا ومرتكب الجرائم بعد التنكر بزي الجنرال، بقصد تحريض الأسرة على التخلص من الأب بسرعة، وإغواء بينوشيه للراهبة التي تصبح مصاصة دماء هي الأخرى. يكشف الفيلم هنا عن أكبر أسراره، ويتضح أن المعلقة الإنكليزية - التي لم تلعب أي دورٍ حيادي طوال الفيلم - لم تكن سوى مارغريت تاتشر، مصاصة الدماء الأخرى ووالدة بينوشيه، التي تحضر إلى مسرح الحدث وتدفع ابنها للتخلص من عشيقته وزوجته وفيودور، بعد أن يتخلص الأخير من الراهبة. هنا، يعود الجنرال إلى كامل قوته، ونعرف أن الأبناء قد خرجوا خالي الوفاض من هذه الملحمة، التي تكسب فيها تاتشر وابنها دماء جديدة، تعيد الأولى إلى منتصف عمرها وابنها إلى سن الطفولة، حيث ينتهي الفيلم أمام مدرسة في تشيلي، ملمحًا لكتابة عمر جديد للشر.
ليس ثمة مصادفات تسببت بإنتاج هذا العمل، إذ ليس لارين بغريب عن التطرق لسيرة الجنرال السابق، ولو بطرق أقل وضوحًا، في أفلام مثل No. كما أن عوامل مثل التوقيت لا تترك لنا مجالًا للشك: ثمة خطة محكمة هنا، لكن ما هي؟
ليس "الكونت" فيلمًا بيوغرافيًا بكل تأكيد، بل يمكن القول إنه يجد مساحته في التركيز على ما تبع حياة بينوشيه، أكثر من حياته نفسها. فعلى المستوى الأول، يمكن لرمزية مصاص الدماء أن تحيلنا إلى عدد لا بأس به من الصور؛ إلى الترجمة الحرفية لمص دماء الشعب، وإلى "النبالة" التي كان بينوشيه يحاول تقديمها عن نفسه، إلا أنها في المقام الأول ترتبط بتلك القدرة على الانسلال من الوقت. بينوشيه لم يُدَن حتى وفاته، ولم تغلق قضيته حتى يومنا هذا، ولا يزال شبحه -في تشيلي على الأقل- يطوف بحرّيّة، ويعاود الظهور في المناسبات الرسمية والأيام المفتاحية، برفقة المرشحين الرئاسيين أحيانًا، وبجانب صور من اختفوا أو ماتوا في السجون مرات أخرى.
يستطيع كائن أسطوري، ضمن هذا السياق، أن يوقف قلبه لبرهة من الزمن، وأن يبدو موته المفترض ممهدًا لحقبة جديدة، حيث يعم التوافق والتصالح، إلا أن هدنة هشة كهذه سرعان ما تنهار حالما يستيقظ الجنرال، الذي سبق واكتشفنا أن كل ما نعرفه عنه كان مزيفًا، من سباته.
ولنقل حكاية غير بيوغرافية كهذه، يلجأ "الكونت" إلى عدد لا بأس به من الاستعارات الفنيّة، معتمدًا على أفلام من كلاسيكيات النوع، مثل نوسفيراتو وفامبير، ناقلًا عناصر الحكاية التي يتوجب علينا تصديقها، حالما نوافق على تصوّر بينوشيه مصاصًا للدماء بكل حال، ابتداءً باختيار الأبيض والأسود ووصولًا لمشاهد الطيران المركبة أو تلك المفرطة في عنفها أحيانًا، وغرابتها أحيانًا أخرى، كمشهد ركض الراهبة بثياب ماري أنطوانيت، لنصل إلى اللقطات القريبة التي تلتصق بالشخصيات لتثير مزيج المشاعر من القرف والاشمئزاز، أو الاستغراب، وهي نقطة هامة بالنسبة لمخرجٍ كان يخشى "أنسنة" بينوشيه، ويرى في هذه الحكاية الطريقة الأجدى للسخرية منه.
في الواقع، تلعب كافة العناصر في الفيلم هذا الدور، مراوحة بين السخرية والرعب. فمنذ اللحظة الأولى في الفيلم، يصدح مارش راديتسكي معلنًا البداية، منتقلًا بين الأوسمة والصور والتذكارات، قبل أن ينتهي عند سرير مصاص الدماء العجوز ومبولته، قائلًا الكثير عن أي نوع من المجرمين يحاول الممثل جايم فاديل تقديمه. والواقع أن العنصر الموسيقي ينجح في دوره بتدعيم هذا المزيج، إن كان ذلك في الكوميديا كما نرى أو في الأجزاء الأكثر عنفًا، بالاعتماد على قائمة تشمل مؤلفين مثل هنري برسيل وفيفالدي وفيردي، والتي عمل الموسيقي خوان بابلو أبالو على إعادة توزيعها وتسجيلها.
ينطلق "الكونت" من محاولة جريئة وجديدة للتعاطي مع قضيةٍ صار من الجلي أن مقاربتها ليست بالأمر السهل من جهة، وكانت هي - رغم ذلك - موضوع عددٍ لا بأس به من الأفلام. ولذلك، فإن عنصر "الفكرة" هنا يصيب في مسعاه، شأنه شأن الخيارات الفنية، إلا أن الفيلم السينمائي، أي فيلم، لا يمكن أن يبقى حبيس لحظة واحدة أو فكرة، فضلًا عن محاولة تشريحه من ناحية العناصر، وهنا تبرز أهم المواضع الأضعف في "الكونت".
لا يمضي الفيلم، الممتد لساعتين تقريبًا، بنفس الجودة خلال هذه الفترة. وما يلي اللحظات الأولى، تلك التي سنشعر فيها بالانبهار من الفكرة ذاتها، ومن الموقف الذي يجد بينوشيه نفسه فيه متمنيًا الموت أمام تاريخٍ لا ينصفه كما يقول، لا يمضي بالتنظيم ذاته، ويقع إما في فخ التكرار الذي لا حاجة لفيلمٍ بهذه الجدة إليه أو في الضياع أحيانًا، لأن قرار تحويل الديكتاتور إلى كائن بهذه الرمزية سيكون مصحوبًا بقراءة مغايرة له، لا ينجح الفيلم في توحيدها، وهنا ستطرح أسئلة كثيرة عن اختيار تاتشر، إن كان ذلك ضمن سياق الشخصيات التي دعمت بينوشيه (وبينها كيسنجر الذي لا يزال حيًا)، أو حتى مجرد اختيار شخصية واحدة بحد ذاتها أيًا كانت.
بذلك، يبدو وكأن جمع كل العناصر في فيلمٍ واحد هو المشكلة، وكأن مهمة التعليق على حدثٍ بهذا الحجم من قراءة أسطورية وعنيفة وكوميدية في الوقت ذاته ستكون مهمة سهلة لأي مخرج. باختصار، هذا هو الحكم النهائي الذي نصل إليه نهاية الفيلم، وربما الطريقة الأمثل لفهم النهاية المفتوحة التي اختارها لارين: يصعب دق الوتد في قلب الشرير مرّة واحدة، مهما كانت الضربة محكمة.