هنالك كثير من الأخبار عن حالات الجفاف هذه الأيام، سواء النيران التي تندلع في غابات أوروبا أو السهول الشاسعة في الغرب الأميركي أو جفاف الأنهار والبحيرات حول العالم. الجفاف يقلق الناس في أنحاء العالم كافة، والمناخ يغيّر مجتمعاتنا ومدننا. ولكن الوضع اليوم يشبه أحداثاً حصلت قبل مئات السنين. تتضح هذه الحقيقة بشكل خاص في دراسة أجراها فريق دولي من العلماء حول مدينة مايابان في المكسيك. كانت هذه المدينة، التي تحوّلت إلى أطلال الآن، الواقعة في شبه جزيرة يوكاتان، آخر مدينة رئيسيّة في حضارة المايا.
ازدهرت مايابان قبل وقت طويل من غزو الإسبان لإمبراطورية الآزتيك بقيادة إرنان كورتيس عام 1521. بين عامي 1100 و1450، كانت مايابان المركز السياسي الأساسي في المنطقة. برزت العائلات الكبيرة المؤثّرة في المدينة أكثر، وبنيت العديد من الأهرامات والمعابد وسط المدينة. لكن مايابان عانت من عدم الاستقرار السياسي، ولعنة الصراع العسكري، وانخفاض عدد السكان. بلغت الاضطرابات ذروتها في نهاية القرن الخامس عشر، وأدت في النهاية إلى تدهور المدينة. السؤال الذي حيّر الباحثين هو: لماذا حصل ذلك؟
قدّم فريق بقيادة دوغلاس كينيت من جامعة كاليفورنيا أخيراً، سردية علمية عن سبب تراجع مدينة مايابان، والسبب هو جفاف طويل الأمد ضرب المدينة. لم يؤدّ الجفاف إلى الجوع فحسب، بل أدى إلى تفاقم الصراعات السياسية واندلاع اشتباكات عسكرية عنيفة. نشرت نتائج الدراسة في مجلة نيتشر كوميونيكيشنز Nature Communications العلمية المحكمة.
يوضّح المؤلّف المشارك في الدراسة، نوربوت مروان، من معهد بوتسدام في ألمانيا لأبحاث تغير المناخ (PIK): "من خلال دمج البيانات المناخية التي رصدناها والمصادر التاريخية العلمية والاكتشافات الأثرية، نحصل على صورة مفصلة بشكل مذهل عمّا حصل لمجتمع المايا، في أميركا الوسطى، قبل 800 عام". يضيف مروان: "هذا يدل بشكل حاسم على أنّ المناخ كان له تأثير كبير في الحضارة الإنسانية منذ بزوغها". بحث العلماء عن أدلة جيولوجية تشير إلى حصول تغيّرات مناخية، مثل تحليل معادن الكهوف. من ناحية أخرى، بحث خبراء الآثار في الوثائق التاريخية حول حصول اضطرابات سياسية وعسكرية، وفحصوا الرفات البشرية بحثاً عن علامات عنف.
هذا التعاون بين مختلف المجالات العلمية أعطى صورة شاملة للظروف في ذلك الوقت. بدأ عدد سكان المدينة بالنمو منذ عام 1100، وبلغت الكثافة السكانية ذروتها بين عامي 1200 و1350. بعد ذلك، بدأ عدد السكان بالانخفاض والتقلص، وفي نحو عام 1450، كان عدد السكان قليلاً جداً؛ فقط نحو 20 ألف شخص كانوا يعيشون في مايابان، حيث يرعون البساتين ويزرعون الذروة، ويمارسون التجارة.
من جهة أخرى، فحص الباحثون مقابر جماعية من فترات مختلفة. عثروا مثلاً على مقبرتين جماعيتين من أواخر القرن الرابع عشر، فيهما رفات العديد من الأشخاص الذي ماتوا بشكل عنيف ودفنوا مع قطعٍ من الفخار المحطم. عظامهم قطعت وأحرقت. يقول الباحثون إنّ هذا النوع من الدفن ناجم على الأغلب عن صراعات سياسية. ووجدوا آثاراً لمقبرة مماثلة بعد عام 1400.
عثر العلماء على رفات العديد من الأشخاص الذي ماتوا بشكل عنيف
كتب العلماء: "نزعم أن بياناتنا تحسم بأنّ انهيار مؤسسات المدينة مرتبط بالجفاف والصراع الذي نجم بعد ذلك داخل المدينة". كان النظام الاجتماعي - السياسي ضعيفاً في المدينة، بسبب الاعتماد الشديد على زراعة الذرة التي تعتمد بدورها على تساقط الأمطار. لم تكن هنالك أيّ طرق للريّ، ولم تكن مرافق تخزين الحبوب قد انتشرت بعد. أدّت المصالح المتضاربة بين العائلات التقليدية المسيطرة على المدينة إلى تفاقم المشاكل السياسية - الاجتماعية في المدينة".
شماليّ جزيرة يوكاتان، أدى الواقع البيئي - الجيولوجي في المنطقة إلى تفاقم المشاكل بشكل أكبر. الأرض منبسطة وساخنة مع القليل من النباتات. المياه السطحية التي كانت تخرج من فجوات الكهوف توقّفت، لأنّ الكهوف انهارت. ومن المعروف أيضاً أنّ شعب المايا قام بعملية إزالة للغابات على نطاق واسع جداً، لبناء المستوطنات التي كانت تمتد على مساحة شاسعة، من المحيط الهادئ إلى غواتيمالا.
يصنف الخبراء مرحلة مدينة مايابان وازدهارها وسقوطها بفترة "ما بعد العصر الكلاسيكي". الخط الزمني في البحث يظهر أنّ السكان كانوا يغادرون المدن المكتظة بالسكان تدريجاً، اعتباراً من القرن التاسع. يلخّص البحث السبب في التغيرات المناخية التي ضربت الواقع الاقتصادي - التجاري في المدينة، الذي أدى بدوره إلى اشتعال فتيل النزاع بين القبائل والعائلات التقليدية المسيطرة، وانهيار التحالفات السياسية القائمة على علاقات المجتمع الزراعي.
يرى الباحثون أنّ ثمة رابطاً واضحاً في التاريخ بين التغيرات المناخية وانعدام الأمن الغذائي والاضطرابات الاجتماعية والحروب العسكرية والهجرة الجماعية. هذه مخاوف لا تزال تهدد بعض أجزاء أميركا الوسطى والمكسيك حتّى عصرنا الحالي. والبحث يشير بشكل دقيق إلى العلاقة الوثيقة التي تربط بين النظم البيئية والنظم الاجتماعية. وبشكل خاص، دور المناخ في تفاقم التوترات المحلية وإذكاء نار الانقسامات في المناطق التي يضرب فيها الجفاف.
وينهي الباحثون ورقتهم بإطلالة على واقعنا الحالي؛ إطلالة تنطلق من الماضي، لعلّ البشرية تتمكن من منع التاريخ من تكرار نفسه. تكرار لا يؤدّي إلا إلى مزيد من العذاب والفوضى في التاريخ البشري.