استمع إلى الملخص
- تستخدم الأغنية أسلوبًا موسيقيًا يجمع بين الراب والتراب، مع توظيف نداءات الشباب، وتنتقد بجرأة المسؤولين الجزائريين وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
- يتعمق لطفي في النقد السياسي، مُنددًا بالنفاق المؤسسي وضعف النظام، وتُختتم الأغنية بنقد لاذع للنظام السياسي وعدم كفاءته، مُعبرة عن إحباط شعوب المنطقة.
ربما لم يسبق لأغنية بوب عربية، فضلاً عن كونها من لون الراب أو أي لونٍ موسيقي آخر، أن توجهت مباشرةً، بدءاً من العنوان ومن ثم الخطاب، إلى حاكمٍ للبلاد، بأي غرضٍ غير المديح والتعظيم والتمجيد.
لذا، فإن الأغنية المصورة الأخيرة للرابر الجزائري لطفي دوبل كانون (50 عاماً)، التي رُفعت على "يوتيوب" منذ شهر بعنوان "عمّي تبون"، تأتي بمثابة سبقٍ من ناحية الثيمة، إذ يحوي عنوانها على اسم شهرة الرئيس الجزائري الحالي عبد المجيد تبون، أما مضمونها فهو التماس لسيادته بأن يلتفت إلى الحال المزرية التي بات يعيشها الشباب الجزائريين، وذلك بحسب مرويّة نص الكلمات.
يُستهل فيديو كليب الأغنية بمقدمة، فتُعرض مقابلات تلفزيونية مع شباب جزائريين عازمين على الهجرة، بينما هم يهمّون بركوب قوارب مطاطيّة، يشكون فيها الأوضاع البائسة، التي جعلتهم يُقدمون على مغامرة محفوفة بالمخاطر، ومقامرة بكل ما يملكون، سعياً وراء بصيص أمل بحياة أفضل في بلدٍ أي أوروبيّ على الضفّة المقابلة، شمالَ البحر الأبيض المتوسط.
تُوظَّف نداءات الشباب الموجّهة "لعمي تبّون" بحذق بداية الأغنية، لتشكّل مكوِّناً من التصميم، فتسمع جُملاً اعتراضية، تمكن مقارنتها بما يُصطلح عليه بين منتجي الراب "استرسال حرّ" (Ad-libs).
بالتزامن البصري مع صور المقابلات، يتقدّم الأغنية أيضاً عرض عبارة "رسالة إلى السيد الرئيس" في تمهيد موضوعاتيّ لمضمون الكلمات. أما الخلفية الموسيقية فتسمع منطلقةً من على أرضية نغمية تتألف من انسجامات مؤثرة ذات طابعٍ درامي، تصدر عن آلة أورغ السيسثايزر، مثل جوقة وترية، ستُصاحب انطلاقة اللازمة، أو الكوبليه، تُغنّى بصوت لطفي كانون.
بالغناء أولاً، يصف لطفي وضع الشباب الجزائريين، كيف انتهت بهم أوضاعهم إلى تفضيل التيه في البحور على الاستمرار في العيش على أرض الوطن. يرِدُ فعل "يبور" باللغة العربية، الشائع في اللهجة الجزائرية، ويعني كساد الشيء أو تعطّل عمله. عبره، يُشارُ إلى تدهور الأمور من سيئ إلى أسوأ، الأمر الذي بات يدفع باليائسين إلى مقارعة الموج العاتي على زورق صغير، والمجازفة أملاً بمستقبل أحسن حالاً.
بعد اللازمة، خلال مقطع الراب الأول، يعقد لطفي بجرأة لافتة مقارنة ناقدة وساخرة، كيف أن انحطاط معنويات الشباب بات يسابق انحطاط العملة الوطنية. تطاول جرأته أعلام السياسة في بلده، إذ يوجّه لوماً مباشراً إلى مسؤولين جزائريين، يُسمّيهم بالاسم، متهماً إياهم بخذلان المواطنين والتقصير في تلبية احتياجاتهم، كما يصف فرنسا عبر صورة مجازية، كيف أنها انقلبت مستعمرة جزائرية، بعد أن كانت بالأمس تستعمر الجزائر وتستوطن فيها، وذلك في تلميحٍ إلى كثافة الجزائريين المُقيمين فيها، بعد أن تركوا الوطن هرباً من سوء إدارة الموارد وانعدام الأفق.
على موضة التراب الدارجة منذ عقدين، ينتقل لطفي من النظم الخالي من اللحن إلى الراب المُرنّم، معتمداً خطوطاً لحنية تتجه علوّاً، تُصعّد من الخطاب وترفع من حدة التوتّر، لتزيد من شدّة تأثيره على المستمع، فتحرّضه على الاستجابة لفحوى الرسائل السياسية والاجتماعية.
أيضاً، يساهم التسخين، من خلال الانتقال السلس من الراب إلى التراب، في توفير عبورٍ تصعيديٍّ ينتهي بالعودةً إلى اللازمة الغنائية. ينتج عن ذلك تحوّل اللازمة إلى ذروة، يعقبها انحلال (Resolution)، ينتهي مجدداً بالنداء الموجّه إلى سيادة الرئيس.
بتنويعات جديدة من الأنماط اللحنية المُشكِّلة الخلفيةَ الموسيقية التي ترافق نَظْم الراب، يغور المقطع الثاني عميقاً في النقد السياسي متمسّكاً بطابع الصراحة والمباشرة. يصف البلد بالمريض، ويندد بالنفاق الذي تمارسه مؤسسات المجتمع الدينية والإعلامية في التعمية بهدف سَتْر الواقع المزري الناجم عن تأزّم الأوضاع المعيشية مستغلّةً انغلاق مجالات التعبير أمام الشارع الجزائري. كما في المقطع السابق، يذكر لطفي أسماءَ حُكّام ورؤساء دول عربية هذه المرة، يتهمهم بالوصاية على الطبقة السياسية المحلية، وممارسة نفوذها عليها، بما لا يتّسّق مع ما يطالب به الشعب.
ستنحسر الخلفية الموسيقية التي ترافق المقطع الثالث، لتقتصر على الإيقاع، ليس معه سوى باص خافت، وصوت قرع أجراس كنيسة، وتلك علامة صوتية، شاعَ توظيفها في الراب المحمّل سياسياً والقادم من الولايات المتحدة، لتُسمع كنذيرٍ باقتراب العقاب وإحقاق العدالة.
بالاقتراب من نهاية الأغنية، يتطرّق لطفي إلى النظام السياسي نفسه وضعف شفّافيّته وعدم نجاعته، مُشيراً إلى تهافت العملية الانتخابية وعجزها عن إنتاج طبقة سياسية تُمثّل الشعب، تُلبّي احتياجاته وتتحلّى بالكفاءة والنزاهة لترقى إلى مستوى التحديّات، فيُطلّ من منظورٍ تشاؤمي على المشهد الإقليمي المُحيط بالجزائر زمنَ ما بعد الربيع العربي، جاهراً من جديد بأسماء مسؤولين وقادة سياسيين.
وهنا يحطّ بنا الجمّال، كما يقال بحسب التعبير الشامي الدارج؛ إذ تعبّر أغنيّة "عمّي تبّون" عن لسان حال شعوب المنطقة بعد انقضاء أزيد من عقد على ثورات إما أطاحت حكاماً عرباً أو انتهت بحروب أهلية دامية، التي وإن بدأت ببشائر التغيير السياسي والاقتصادي، فإن وعودها لم تصدق إلى الآن في أغلب الأحيان، بل خلّفت أوضاعاً معيشية متردّية إلى درجة دفعت بالكثيرين إلى الهرب تاركين أهاليهم وذويهم.
بل إن النقمة العارمة إزاء سوء أحوال الناس في معظم الدول الناطقة بالعربية أخذت تحث بعض الفنانين، من أمثال لطفي كانون، على رفع سقف الخطاب الناقد، المعاتب والمحاسب، بقوة دفع المزاج العام السائد والمحتقن، يطالبون بتأمين فرصٍ أفضل للأجيال الجديدة، فلا يضطّر الكثير منهم إلى هجر بلدانهم واختبار مهانة اللجوء في بلدان ما انفك يُنظر إليهم فيها على أنهم غرباءٌ عنها.
أما توجيه خطاب سياسي عبر أغنية راب، فليس جديداً بحدّ ذاته عن تاريخ ذلك اللون، الذي انبثق عن الهيب هوب في الولايات المتحدة أوائل الثمانينيات، بوصفه أساساً أداةَ تعبيرٍ بيد المهمّشين والمقهورين والمُميّز ضدّهم، سواء من المؤسسات الاقتصادية أو السياسية. الجديد ربما، وفي السياق العربي، هو رفع السقف، مع الحرص على إبقائه، بتوجيه الرسالة "إلى السيد الرئيس".