هذا فيلم أميركي أخرجه هنغاري (كورنيل ميندروكزو) ومثّلت فيه بريطانية (فانيسا كيربي): "قِطَع امرأة" (تعرضه "نتفليكس" منذ 7 يناير/ كانون الثاني 2021). امرأة فاتنة تتحطّم. لا تستحقّ الشقاء الذي يُسلّطه عليها السيناريو (كايت ويبر). ينحت الفيلم حدثاً واحداً في نصف ساعة. هذا ليس منطق سينما هوليوود، بل لمسة سينمائية أوروبية للمؤلّف.
بدأ الفيلم بكاميرا (بنجامن لوب) ترصد حدثاً حميمياً واحداً في فضاء داخلي من دون ملل، قبل انتقالها إلى العالم الخارجي. الفيلم مُركَّب كنحت الـpuzzle. كلّ قطعة في مكانها الوحيد في اللوحة. فيلم هادئ، يكاد يكون صامتاً في ساعته الأولى. في هذه المدّة، يعرض ميندروكزو مقاطع مبنية بطريقة فنية، تظهر جهد تكثيف إخراج صُوَر قويّة. هذان النحت والبطء تتلذّذ بمشاهدتهما لجان تحكيم المهرجانات. تفوز كيربي بجائزة أفضل ممثلة، في الدورة الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي".
يُمكن لكشف حِيَل بناء هذه الصُوَر ونحتها أنْ يقوّي الوعي بها، وبالتالي يُضعف متعة المُشاهدة. عادةً، يتجنّب المخرجون كشف حِيَلهم وأساليبهم الفنية، عندما يتحدّثون في المهرجانات والإعلام. يحتفظون بالسرّ لأنفسهم، لأنّهم يُحصّلونه بعد تقصٍّ يستغرق زمناً. من دون معرفة مسبقة وعميقة بالأساليب الفنية، يفشل الناقد في ملاحظتها عند مُشاهدته فيلماً.
جاء تتويج الممثلة فانيسا كيربي في مرحلة عطاء كبير بالنسبة إلى الأفلام التي تصوّر نساءً تجاوزن مرحلة الشباب، ويعشن مرحلة انتقالية على عتبة الأربعين. يُستخرج الأفضل من جسد الممثلة. يُظهر الجسد محتوى التواصل، أي إحساسها وموقفها مما وممن حولها. في بحثٍ يهدف إلى فهم قوّة حضور الجسد لدى الممثلة البريطانية، تظهر أنّها ابنة طبيب جرّاح، متخصّص بتشريح الجسد، الذي يعمل عليه طويلاً.
مارثا امرأة وحيدة في بيئة باردة. تتأمّل أطفالاً، ثم تتأمّل بذرة التفاحة التي تقضمها. تضع البذرة في الثلاجة. هذه ليست بيئة ملائمة للتوالد. يحصل تدهور درامي، فيترك الموت بصمة هائلة في سلوك الأحياء. نظرات مارثا تائهة، تستنجد. تطلب أنْ تُترك وشأنها. ما حصل خسارتها هي، وهذه الخسارة لا تُعوّض. لكنَّ مَنْ حولها يريدون تسوية الحساب مع العدو. هي ترى أنّ أيّ انتقامٍ أو عدالة لن يخفّفا ألمها. تُعبّر عن هذا التحدّي من دون ضجيج، وعن مشاعرها باقتصادٍ.
ما كمية المعلومات التي يعطيها الجسد عن صاحبه؟ كمية هائلة. يحصل هذا بالفطرة، بالنسبة إلى البشر جميعهم. بالنسبة إلى الممثل، يجب أنْ تكون المعلومات، المُقدَّمة إليه، مُنتقاة بشكل فني لا فطري.
يقدّم "قِطَع امرأة" شخصيات قليلة. عادةً، كثرة الشخصيات تُشوّش المتفرّج، خاصة حين لا تكون أهداف تلك الشخصيات واضحة، أو حين تكون الشخصيات مرسومة بطريقة فضفاضة، تُحرّكها دوافع ضيّقة لا يُدركها المتفرّج. يُقدّم المخرج شخصيات قليلة في وضعيات سردية. شخصيات تنتبه وتتواصل وتقوم برد فعل، كما في الجُمل القصيرة والعنيفة للزوج، شون (شيا لوبوف). مثلاً: تُعبّر مارثا عن سعادتها، لأنّ أمّها اشترت سيارة له، فيُلاحظ أنّها اشترت له سيارة بلون داكن كروحها. سخرية قاسية تكشف، بالقوّة نفسها، شخصية مَن ينطق بها، ومن تتناوله.
يُصوّر الفيلم هشاشة العلاقات الإنسانية، التي تنتقل فجأة من وضع إلى نقيضه. يُحسّن ميلاد طفل العلاقة بين الزوجين. غالباً، يكون الرجال الأدنى تعليماً أكثر حناناً وعطفاً وتسامحاً تجاه حبيباتهم. لكنْ، حين يغضبون، تسوء الأمور.
لرصد التحوّل، هناك استعارة الجسر والزجاج. هناك "ليتموتيف (leitmotiv)": جسر وزمن. جسر يُبنى ويقترب طرفاه للربط بين ضفتين. بينما يُبنى جسر الحجر لربط ضفتين إحداهما بالأخرى، يتآكل الجسر الرابط بين البشر. كلّ يوم، تزداد المسافة بين مارثا وشون. تحلّ البرودة محل الدفء، والصمت محل الضحكات. يكبر جسر الحجر، ويتلاشى الجسر المؤقّت الرابط بين البشر. يقبض الـ"ليتموتيف" على الفكرة المهيمنة، ويُكثّفها ويُكرّرها.
في مشهدٍ قصير جداً، تظهر ورش وحفريات، ثم مصعد زجاجيّ بين مكاتب. تعمل مارثا في مكتبٍ، وشون في ورش بناء الجسور. هكذا يُحدّد كورنيل ميندروكزو مهنتيّ شخصيّتيه الرئيسيّتين ومعاشهما في البداية. يترسّخ الاختلاف في آخر الفيلم، فبينما تعيش مارثا حالة تطهير، يستمرّ شون بمساره السابق نفسه. يستفيد من كلّ مصيبة. الـ"كاتارسيس" لا ينفع الشخصَ النرجسي.
يوحي عنوان الفيلم بأنّ الفرد قطعة زجاج تحطّمت فتشتّتت. يعرف المتفرّج المُشبّه والمُشبّه به. يرى وجه الشبه في مطلع الفيلم. يتابع حين يتلقّى معلومات متناسقة عن الاستعارة التي تُمكّنه من دخول المشهد وعيشه، مع امرأة تنقّي حاضرها من كسور ماضيها. يتأمّل أنْ تبدأ من جديد. يجري الزمن. يصير الثلج الصلب سائلاً. ثم يقع تغييرٌ. هذا يُمكّن الفرد من سبك شخصيته، للانطلاق مجدّداً.
هكذا يقدّم "قِطَع امرأة" صورة قوية للمرأة الحديثة، فالأمومة جزء من الأنوثة لا كلّها. لا يُمكن اختزال صورة المرأة في الإنجاب. بهذا الوضوح، تتحرّر مارثا مما يحصل، وهو مؤلم. هكذا تحتفي السينما (والفن الحديث عامة) بجمال الحقيقة، مهما يكن الألم الذي تسبّبه. لأنّ الحقيقة في النهاية تحرّر ضمير الفرد. هذه الحرية، على المدى البعيد، أرقى وأثمن من كلّ تسكين ظرفيّ للألم بواسطة الوهم.