اختفاء أنواع سينمائية من اهتمامات إنتاجية وتوزيعية وإخراجية وتمثيلية وفنية مختلفة، عربياً ودولياً، حاصلٌ منذ أعوامٍ مديدة. أفلام "وسترن" و"ميوزيكال" ورومانسية، مثلاً، غير مُثيرة لأحدٍ. أفلام الـ"كاراتيه" والفنون القتالية أيضاً. البوليسيّ شبه غائبٍ في السينما العربية، رغم أنّ غالبية دولها تتفنّن في ابتكار أشكال كثيرة من الحكم البوليسي، وتبرع في تنفيذها دائماً.
سؤال غيابها مشروع. غيابها نفسه طبيعي. يحدث هذا مراراً في المسار التاريخي للسينما. أسبابٌ عدّة تؤدّي إليه، وإنْ يكن "المزاج الجماهيري" أبرزها (هذا يستحقّ نقاشاً أيضاً)، فسطوة أنماطٍ أخرى تؤدّي أيضاً إلى الاختفاء. "مارفل" تستمرّ بسيطرتها على السوق، و"الأبطال الخارقون" يدعمونها، رغم مطبّات وتراجعٍ وأخطاء وتسرّع. لا "مارفل" عربياً، و"الأبطال الخارقون" يعجزون عن اختراق حدود عربية جمّة. منصّات غربيّة تتفوّق على شركات إنتاج كبيرة، لكنّ منصّات العالم العربيّة أعجز من أنْ تُنافِس نفسها، رغم استثناءات نادرة.
الوجع العربي قاتل. ينبثق من سطوة أنظمة، وتخاذل أناس، وغياب فعل نقابي أو حزبي متحرّر من طائفة أو مصلحة ضيّقة. البؤس أكثر حدّة من أي وقتٍ ماضٍ، لكنّ أفراداً كثيرين يُسبّبون حدّته واستمراريته، بصمتهم وخنوعهم وسخريتهم ممن يواجه ويتحدّى ويصرخ. التمزّقات تحول دون ابتسامةٍ. الشقاء يمنع إعلاناً شفّافاً عن حبّ، أو عن عيشٍ عاديّ (على الأقل) لرومانسية عادية (على الأقلّ). أزمات تقضي على أحلامٍ، أو على المتبقّي منها. اختناق يمنع هواء نظيفاً من تغيير لحظة أو راهنٍ أو عيش. السينما منبثقة من وقائع وحالات وانفعالات، وإنْ تذهب بعيداً في خيالها العلمي (ليس كلّ خيال علمي جذّاباً وبديعاً)، وفي مغامرات أبطالها الخارقين (غالبيتهم الساحقة ساذجة وصانعة انتصاراتٍ وهمية)، وفي ابتكار صُور يصعب تصديقها لحظة مُشاهدتها، لتوغّلها في اللامعقول، أو في غير الممكن.
تغيب أنماطٌ سينمائية، لأنّ أنماطَ عيش وسلوك وتفكيرٍ تغيب أصلاً. أو لأنّ كلّ إمكانية بصرية لإنتاج ما يُلغي غيابها، تغيب. العالم غير متّسع لحبّ أو لرومانسية أو لبطولة راعي بقر، لاتّساعه لبطولة من يملك/ تملك قدرات غير طبيعية، وإنْ يوظّفها/ توظّفها في أمور الحياة والدنيا. حتّى أبطال الفنون القتالية والـ"كاراتيه" غائبون نهائياً، وغيابهم غير محصورٍ بفنّ السينما فقط، ربما. العالم يحتاج اليوم إلى أبطالٍ خارقين فقط، لشدّة عجزه عن نيل حقوقه وحاجاته مع أبطال حقيقيين، كأنّ الخارقين أقدر على تحقيق حقوق ونجاحات، في زمنٍ كهذا.
يُقال عادةً إنّ كلّ شيء فانٍ. أو ربما هذا عيشٌ ينتهي بفناء، وإنْ تستمرّ البشرية في إنجاب مزيدٍ من الناس، أي مزيدٍ من المصائب والأعطاب، مقابل ندرة بهاء وسلوى ومتع. البشرية تستمرّ، مع أنّ ليس كلّ استمرارٍ يعني حياةً، أصلاً. كلّ جميلٍ ينتهي، وكلّ بشاعةٍ أيضاً، وإنْ يكن للبشاعة عمرٌ أطول، عادةً.
أنواعٌ سينمائية تختفي. أنواعٌ أخرى تظهر، فتسيطر. العالم مرتبك. الكتابة مُتعَبة، ومُتعِبة في زمن غدّار كهذا. لكنّ بعض ذكريات جميلة أقدر على بقاءٍ يحمي، وعلى شغفٍ يُحصِّن من موتٍ سريع.
أم أنّ هذا كلّه وهمٌ؟