أنْ يخرج مشاهدو فيلمٍ ومشاهداته من صالة عرضه التجاري، قبل انتهائه بلحظاتٍ، أي مع بدء "جينيريك" النهاية أو قبيل البدء بقليل، أمرٌ ربما يُفهَم، لكنّه غير مقبول، لأنّه يُقلِّل من احترام الفيلم والعاملين ـ العاملات فيه، والاحترام متأتٍ، في أحد جوانبه، من قراءة أسماء، أو بعض أسماء هؤلاء، المذكورة في الـ"جينيريك" نفسه. لكنْ، أنْ يفعل هذا نقّادٌ وصحافيون ـ صحافيات سينمائيون، في عرضٍ خاصٍ بهم ـ بهنّ، في مهرجانٍ سينمائي، أو حتّى في صالة تجارية، فغير مفهوم وغير مقبول، مع أنّ "ارتكاب" فعلٍ كهذا في مهرجانٍ سينمائي، تحديداً، مُبرَّرٌ في حالة واحدة: أنْ يكون الناقد والصحافي ـ الصحافية السينمائيَّان راغبِين في مشاهدة فيلمٍ آخر، والوقت قليلٌ بين نهاية الفيلم المُشاهَد وبداية الفيلم اللاحق عليه، المعروض في صالة أخرى. أو أنّهم ـ أنّهن يريدون حجز مقعدٍ في قاعة المؤتمرات الصحافية، مباشرة بعد الفيلم المعروض، فالمقاعد قليلة العدد، وهناك من يرغب، فعلياً، في حضور مؤتمر صحافي كهذا.
المشكلة كامنةٌ في أمرٍ آخر: في الثواني الأخيرة لما يُفترض به أنْ يكون خاتمة "نهاية أخرى" (2024)، للإيطالي بيارو مِسّينا، المُشارك في مسابقة الدورة الـ74 (15 ـ 25 فبراير/ شباط 2024) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، يبدأ الحضور (عاملون وعاملات في النقد والصحافة السينمائيَّين) بالخروج من الصالة، رغم أنْ لا إضاءة، ولا "جينيريك" نهاية، بل عتمة مترافقة وأسود يغطّي الشاشة الكبيرة، من دون موسيقى وصوت. لعبةٌ يريدها مِسّينا لـ"غايةٍ في نفسه"، لكنّ الغالبية الساحقة من الزملاء والزميلات يريدون خروجاً سريعاً، علماً أنّه يستحيل أنْ يكون السبب، بالنسبة إليهم ـ إليهنّ، رغبةً في اللحاق بموعدٍ آخر، لمُشاهدة فيلم آخر، أو لحضور مؤتمر صحافي.
لعبةٌ سينمائية يمارسها مخرجون ومخرجات في نهايات أفلامٍ، غير منتهية فعلياً. هناك من يبثّ على الشاشة الكبيرة بضع أسماءٍ، يُلحقها بلقطةٍ، تسبق لائحة أسماء أخرى، ثم لقطة ـ مشهد ثانٍ، قبل الخاتمة الفعلية. هناك من يُكمِل فيلمه بعد سوادٍ كالح لثوانٍ، ربما تبلغ الدقيقة أو أكثر بقليل، أحياناً. مِسّينا يفعل هذا: هناك لقطاتٍ موزّعة على مشهدين اثنين، بعد سوادٍ يُغطي الشاشة وينتشر في الصالة، يكونان (المشهدان الاثنان) خاتمة فيلمٍ مُثير لنقاشٍ عن الفقدان والحزن المتأخّر والإنكار، كما عن الحبّ وقسوة العيش ومعنى العلاقات. المقصود بهذا غير واضحٍ تماماً، إذْ ربما يريد المخرجُ صدمةَ المُشاهِد ـ المُشاهِدة، بمنحهما مساحةً زمنية قصيرة لانتظار المُقبل، الذي لن يُقدِّم شيئاً إضافياً ربما، فتُفرَّغ الصدمة من كلّ معنى له علاقة بالنصّ السينمائي واشتغاله. أو ربما يحاول المخرج نفسه قولاً، مفاده أنّ السواد والفراغ والصمت انعكاسٌ لقسوة المرويّ سابقاً، وتأكيدٌ على أنّ اللاحق مفتوح على أكثر من احتمال.
مع أفلامٍ قليلة أخرى، مشاركة في المسابقة نفسها، يحصل شيءٌ من هذا أيضاً. مثلٌ على ذلك: "حمّام الشيطان"، للنمساويين فيرونيكا فرانتز وسِفِرِن فْيالا، المُرتكز نصّه الدرامي على وقائع تشهدها إحدى "المقاطعات الألمانية" في النمسا عام 1750، تتمثّل بسعي أناسٍ، غالبيتهم الساحقة من النساء، إلى خلاصٍ منشود من قسوة عيش يومي، في ظلّ سطوة اجتماع ودين، بارتكاب القتل لتنفيذ عقوبة الإعدام بهنّ. في اللحظات الأخيرة، يعمّ الصمت مع سواد الشاشة، فيتأهّب بعض الحضور للخروج من الصالة، قبل أنْ ينتبه هذا البعض إلى ما يُكتَب على الشاشة نفسها من معلومات، يريد المخرجان إعلانها في ختام فيلمهما "الجميل"، رغم قسوته المتأتية من عنف الحكاية وناسها.
هذا كلّه لا علاقة له بخروجٍ، يمارسه عددٌ لا بأس به من الحاضرين والحاضرات في الصالة، في لحظاتٍ مختلفة من مسار ما يرويه الفيلم، ويُصوّره ويلتقطه ويكشفه. فالخروج فعلٌ عادي وطبيعي، رغم أنّ هناك من يرفضه قبل انتهاء الفيلم، في مقابل من يؤيّده، مستنداً إلى قولٍ مفاده أنّ "الفيلم يُقرأ من أوّله". قولُ هذا يحتاج إلى نقاشٍ، يميل معظمه إلى رفضه، فأفلامٌ عدّة تُقدِّم في البدايات نقيض اللاحق عليها.
ثوان، أو دقائق قليلة أخرى، من البقاء في الصالة، لمتابعة "جينيريك" النهاية، أو لانتظار لقطة أو مشهدٍ، غير مُضرّة البتّة. البقاء حتى "النهاية الأخيرة" دليل احترام للفيلم وللعاملين ـ العاملات فيه جميعاً، من دون استثناء. إنّه استكمالٌ للفيلم، إذْ لعلّ هناك شيئاً غير متوقَّع يُشكِّل امتداداً ـ إضافةً للنصّ البصري، ولحكاياته وتفاصيله ومساراته، كما لشخصياته وانفعالاتها وهواجسها. أمْ أنّ اللاحق على سواد الشاشة وصمتها عادي، وغير خارجٍ من إطار لعبة ـ تلاعب المخرج ـ المخرجة بالمُشاهدين والمُشاهدات؟
قول بعض هذا مُكرّر. جيرار عاملٌ سابقٌ في شركات توزيع سينمائيّ في بيروت، قبل حربها الأهلية (1975 ـ 1990) وبعدها بأعوامٍ كثيرة، يُصرّ على البقاء جالساً في مقعده أمام الشاشة الكبيرة، إلى أنْ ينتهي الـ"جينيريك"، في عرضٍ صحافي يشارك فيه دائماً. العاملون في الصالة، في تلك العروض، يعرفون أنّه باقٍ إلى الختام الفعلي، فلا يوقفون العرض، ولا يُضيئون الصالة. رغم أن زملاء وزميلات المهنة يُغادرونها مع شيءٍ من ضجيج وثرثرة.
نادرون هم وهنّ أولئك الذين يُشبهونه، في راهنٍ مُصاب بعطب السرعة.