في تاريخ الفن، تلعب المقادير دورها، فتنشر وتطوي، وترفع وتخفض. وقد أرادت مشيئة الأقدار أن تجعل من محمد عبده صالح علماً على آلة القانون، فرتبت عوامل كثيرة لتجعل منه "فلتة" في حياته وبعد رحيله: النشأة، والتكون الفني، واللقاء المبكر بأم كلثوم، وقدراته في العزف المصاحب، ودقته في تنفيذ الصولوهات، وتفوقه في الارتجالات، وعلاقته المباشرة بالجمهور، ومؤلفاته الآلية للإذاعة.
كل ذلك عمل على ترسيخ صورته في الوجدان الجماهيري المصري والعربي، وكأنه العازف الوحيد لهذه الآلة، لا يذكرها أحد إلا واستدعت أذهان المستمعين طيف ذلك العازف الذي احتل أول كرسي يمين مطربة العرب الكبرى لأكثر من 40 عاماً.
مبكراً، توفرت لمحمد عبده صالح كل الأسباب التي سهلت حصوله على ذلك النمط من التعليم التأسيسي القوي المتين، الذي لا يمكن قطف ثمرته إلا بالأخذ المباشر والعملي عن السابقين، الذين لم يكونوا يمنحون الاعتراف الفني إلا لمن اكتملت مهاراته، عزفاً أو غناء.
والده علي أفندي صالح، أحد كبار المتمرسين بالعزف على الناي، عمل ضمن تخت المطرب عبده الحمولي، وقد وصلنا عزفه مسجلاً، سواء مع تخت موسيقي آلي، أو مع مطربين كبار من طبقة يوسف المنيلاوي وعبد الحي حلمي وسيد الصفتي. دفع علي أفندي بابنه محمد إلى أساتذة القانون، فلم يبلغ الثانية عشرة من عمره إلا وهو عازف محترف قادر على مجاراة أساطين التخت في محافل عامة. كان ذلك أول دلائل النبوغ.
يقول الراوي إن أول محفل ظهر فيه محمد عبده صالح وعمره 12 عاماً، كان كفيلاً بفتح الأبواب أمام "الصبي الموهوب"، ليلتحق بالعزف مع سيد درويش، وصالح عبد الحي، ومحمد عبد الوهاب. وكل ذلك لم يكن إلا تمهيداً يعبد طريقه إلى أم كلثوم التي تعرف عليها وتعرفت عليه في منزل الموسيقي والعواد أمين بك المهدي عام 1926. ثم عملت المقادير عملها؛ اختلفت أم كلثوم عام 1929 مع عازفها على القانون إبراهيم العريان، صاحب السماعي الشهير من مقام البياتي، فبحثت عمن يخلفه، ليقع الاختيار على تلميذه النجيب محمد عبد صالح. سيعزف الصبي خلف أشهر مطربات الشرق، وعمره 17 عاماً.
أصبح صالح جزءاً مهماً، بل ركنا من أركان الكيان الكلثومي الضخم. وقبِلَ طلبها في قصر عزفه على تختها، وألا يتعاون مع أحد من المطربين إلا بإذنها، حتى عندما يحتاج إليه محمد عبد الوهاب، الذي حمل دائما تقديراً كبيراً لموهبة صالح وتفوقه. وعبر أربعة عقود من العزف خلف أم كلثوم، بنى الرجل صرحه الفني الكبير، ورسّخ مكانته في الوجدان الجماهيري.
مع أم كلثوم، قدم صالح بأوتار قانونه كل ما يُطرب ويُبهر، وخصه الملحنون بكثير من مقاطع العزف المنفرد (الصولوهات) التي أداها بأرقى ما يمكن أن يصل إليه عازف، وكانت مقاديره من الزخارف والعُرب بالغة الدقة، فإذا أعاد العزف، وضع في الإعادة ما يجعلها خلقاً جديداً، وكان هذا من أوجه التشابه بين عزفه وبين غناء أم كلثوم التي لا تعرف التكرار الحرفي. وتمثيلاً، يمكن الإشارة إلى الصولو الشهير في أغنية "دليلي احتار"، من ألحان رياض السنباطي، وتحديداً قبل جملة "يا ريتك فجر في عيوني".
يعزف صالح المقطع بكل ما أوتي من مهارة وأناقة، حتى يظن السامع ألا مزيد فوق هذا، وحين يصل إلى نهايته، تضج الصالة بتصفيق قوي من الجمهور الذي يطلب إعادة العزف، فيعيد الرجل تقديم المقطع مرة ثانية، وهو يفجر الإضافات العبقرية من كل جملة، فتكون النتيجة أن يتلقى تحية جماهيرية أكبر من الأولى. لكن الأمر ليس مجرد محفل وإعادة، فقد غنت أم كلثوم "دليلي احتار" 25 مرة، وعزف صالح نفس الصولو في كل محفل مرتين، أي عزفه 50 مرة، ومن العجائب أنه يأتي في كل مرة بجديد لا يسمح للمستمع بالاستغناء عن أي منها.
ومن أهم ما كان يقدمه محمد عبده صالح في محافل أم كلثوم، تلك الارتجالات الخطيرة المطربة العفوية، التي تنم عن خيال نغمي واسع، وقدرة استثنائية على الإطراب بكل نقرة، وبناء تقسيمة بالغة الجمال والفخامة، تنتهي بقفلة حراقة تكاد تطيح بعقول المستمعين. كان صالح واحداً من فرسان ثلاثة، قصرت أم كلثوم سوانح الارتجال عليهم: هو على القانون، ومحمد القصبجي على العود، وأحمد الحفناوي على الكمان. والأمثلة كثيرة، لكن الإشارة مهمة إلى ارتجالات صالح في كثير من محافل "يا ظالمني"، بعد أن تشرع أم كلثوم في ارتجالاتها لمقطع "حكيت لك عن سبب نوحي"، وكذلك ارتجالاته في محافل "رباعيات الخيام" بعد مقطع "فكم توالى الليل بعد النهار".
كان صالح أشبه بجدار كبير تستند إليه أم كلثوم في محافلها، فهو مع دقة حفظه للألحان، وصل إلى مستوى عال جداً من فهم ما تريده سيدة الطرب، يعرف من خلال أدائها إن كانت تريد إعادة الجملة، أو الانتقال إلى التي تليها. يعرف متى يكرر الجملة مرتين، ومتى يكررها ثلاثاً. عينه دائما على أصابع اليد اليمنى لأم كلثوم، حيث تشير أحياناً بالإعادة، بعد ضغط جماهيري لا يكتفي بالتكرار المعتاد.
ولا ريب أن هذا التفاهم الذي يبلغ حد التوحد والانصهار، شكّل معلماً مهماً من معالم المحفل الكلثومي، وأكسب الوصلات المصورة أهمية كبيرة، لأنها ساعدت على نقل هذه الحالة الفريدة لفرقة أم كلثوم بقيادة صالح إلى الأجيال الجديدة. ربما كان الرجل أعظم نموذج للعزف المُصاحِب للغناء، وأي غناء؟ غناء أم كلثوم، المتسم بالتصرفات والارتجال والمفاجآت.
لكن بالرغم من هذا الالتصاق بين اسم محمد عبده صالح وفرقة أم كلثوم، إلا أن للرجل مسارات جانبية مهمة، وفي مقدمتها نحو أربعين مؤلفاً آلياً، مقولباً أو حراً، منها: سماعي الهزام الشهير، وسماعي حجاز كار، ومقطوعات "لوعة" و"أندلسية" و"أمل" و"الحب كده" و"دعاء" و"شكوى".
كما سجل مجموعة من التقاسيم الموقعة بمقامات مختلفة، وقد اختير عازفاً أول لآلة القانون عند تكوين أول فرقة موسيقية للإذاعة المصرية عام 1951. كما كان ركناً من أركان ما عرف بفريق خماسي الإذاعة: صالح على القانون، جورج ميشيل على العود، أحمد الحفناوي على الكمان، محمود رمزي على التشيلو، وإبراهيم عفيفي على الرق. وكان لصالح الدور الأكبر في تكوين هذه الفرقة واختيار عازفيها.
يرى كثيرون من المهتمين بآلة القانون، أن محمد عبده صالح جمع في عزفه عدداً من المهارات والتقنيات التي لا تجتمع بهذا المستوى الفائق، إلا لقلة نادرة من أفذاذ العازفين، ومن هذه المهارات: الفرداج، وهو الصد والرد بشكل متصل. والبصم، وهو عزف الوتر بسبابة اليمنى ثم عفقه بسرعة قبل انقطاع الصوت بسبابة اليسرى. وسرعة التبديل، وهو استخدام اليدين فى عزف الدرجات سلمياً أو قفزاً، على وتر واحد أو وترين متتاليين، أو العزف بالسبابتين على درجتين متشابهتين فى ديوانين مختلفين، أو التبديل بأسلوب المحاكاة، فتعزف سبابة اليمنى عبارة لحنية وتحاكيها سبابة اليسرى فى القرارات والعكس.
والكونتر، وهو تأخير موضع النبر باليد اليسرى. والغليساندو (الزحلقة)، وهي عفق نغمة والزحلقة بها أوكتافاً كاملاً (درجة الجواب) على نفس الوتر. وحليات التريمول، ومعناها بالإيطالية "الرعشة"، وفي اصطلاح "القانون" تعني الأداء السريع بأسلوب الصد والرد على نفس الوتر بسبابة اليد اليمنى. والزغردة، وهي عزف سريع للنغمة الأصلية مع نغمة أعلى منها بطريقة التبديل السريع ثم الركوز على النغمة الأصلية بعد إنتهاء زمن الحلية. والإتشيكاتورا، وهي عزف نغمة صغيرة تسبق النغمة الأصلية وتؤدى بشكل زحلقة سريعة ويكون النبر القوى على النوتة الأساسية.
لم ينل محمد عبده صالح ما يستحق من البحث والدرس، ولم يحظ حتى بالتناول الصحافي اللائق. وبالرغم من كونه أشهر العازفين العرب، إلا أن الموضوعات الصحافية التي تعرض سيرته بلغت حداً مزعجاً من التهافت، ولا تكاد تقترب من مسيرته الفنية.
وفي الصحافة المصرية مثلاً، تكررت كثيراً الموضوعات التي تتحدث عن "أيام صالح الأخيرة" وظروف رحيله، وحزن أم كلثوم على ذلك، مع إضافة بعض الشائعات والأوهام التي تجذب زبائنها. ومن الطريف أن المواقع الصحافية وهي تتناول سيرة الرجل لا تذكر تاريخ رحيله، لأن غير مذكور في "ويكيبيديا". في 30 يونيو/حزيران عام 1970، غادر الرجل الذي أمسى عزفه أكبر مظاهر سيادة "القانون".