تحلّق ملايين الهنود، الأربعاء، حول شاشات التلفزيون في الشوارع والمطاعم والبيوت لمتابعة أوّل إنزال لمركبة فضائية هندية على سطح القمر. وفي تمام السادسة وأربع دقائق في التوقيت المحلي، علا الهتاف والتصفيق بين علماء منظمة الأبحاث الفضائية الهندية في مقرها في مدينة بنغالور جنوبي البلاد، بعدما حطّت مركبة شاندرايان-3 بسلام في القطب الجنوبي الوعر وغير المستكشف من القمر، لتعمّ الاحتفالات بين الناس الذين احتفلوا بالرقص في الشوارع وإطلاق الألعاب النارية.
حتّى رئيس الوزراء ناريندرا مودي، المتواجد في جنوب أفريقيا لحضور قمّة مجموعة البريكس، أطلّ عبر الفيديو وهو يلوّح بعلم البلاد، معلناً عبر منصة إكس (تويتر سابقاً) أنّ "هذه لحظة لا تُنسى. إنها استثنائية. هذه صيحة نصر للهند الجديدة". صيحة نصر تضاف إلى الانتصارات التي وظّفها مودي منذ استلامه الحكومة الهندية عام 2014، للترويج لمشروعه السياسي القومي ومشروعه الاقتصادي، رغم الانتقادات الحقوقية التي تلاحقه وتلاحق حزبه بهارتيا جاناتا القومي الديني المتطرف.
هكذا صارت الهند رابع دولة تصل إلى القمر بعد الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين، والأولى التي تصل إلى قطبه الجنوبي المجهول، والذي يعتقد العلماء أنه يمكن أن يحتوي على احتياطيات حيوية من المياه المجمدة والعناصر الثمينة.
ويأتي النجاح الهندي بعد أيام قليلة من تحطم المركبة الفضائية الروسية لونا-25، والتي كان مشغلوها يسعون إلى إنزالها في نفس المنطقة القمرية، ممّا دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تهنئة الهند في رسالة موجهة لمودي نشرت على الموقع الإلكتروني للكرملين، قائلاً: "هذه خطوة كبيرة إلى الأمام في استكشاف الفضاء، وبالطبع شهادة على التقدم الرائع الذي أحرزته الهند في مجال العلوم والتكنولوجيا".
كذلك، هنأ مدير وكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، بيل نيلسون، منظمة أبحاث الفضاء الهندية على نجاح الهبوط، وكتب عبر حسابه على "إكس": "تهانينا للهند على كونها الدولة الرابعة التي تهبط بنجاح بمركبة فضائية على سطح القمر... نحن سعداء لكوننا شركاء في هذه المهمة".
وعكس الاحتفاء الدولي مكانة الهند المتزايدة في مجال استكشاف الفضاء وأبحاثه في السنوات الأخيرة، على الرغم من استمرار معاناة شريحة كبيرة من السكان لتأمين الأساسيات.
بدايات متعثرة
بعد قرابة عقدين على استقلال البلاد، أسّس رئيس الوزراء جواهر لال نهرو منظمة أبحاث الفضاء الهندية عام 1969، وذلك بتشجيع مجموعة من العلماء، أبرزهم فيكرام سرايهاي الذي سيصير لاحقاً الأب الروحي لبرنامج الفضاء. لكن لم تحمل العقود الثلاثة الأولى الكثير من النجاح بالنسبة للوكالة التي ستعرف اختصاراً باسم "إسرو"(ISRO).
عام 1975، أطلقت الوكالة، بمساعدة تقنية من الاتحاد السوفييتي، أوّل أقمارها الصناعية، والذي حمل اسم أريابهاتا. لكن المسبار الذي كان من المفترض أن يعمل لمدة ستة أشهر، لم يصمد سوى 4 أيّام في الفضاء. وفشلت عام 1979 في إطلاق أوّل صاروخ محلي الصنع قادر على حمل قمر صناعي. وعلى الرغم من نجاحها في الأعوام التالية بتطوير صاروخ روهيني محلياً، فإن إنجازات "إسرو" بقيت متواضعةً مقارنةً بوكالات الفضاء الأميركية والروسية والأوروبية لأسباب عدة، من أبرزها ضعف التمويل.
مع اقتراب الألفية الجديدة، قرّرت الحكومة الهندية أن تزيد التركيز على مشروعها الفضائي. وفي خطابه خلال عيد الاستقلال في 15 أغسطس/ آب 2003، أعلن رئيس الوزراء آنذاك، أتال بيهاري فاجبايي، انطلاق العمل على مشروع شاندرايان-1، الهادف إلى إطلاق قمر اصطناعي في مدار القمر والتأكّد من وجود الماء على سطحه.
"مركبة القمر"
تعني كلمة شاندرايان باللغتين الهندية والسنسكريتية مركبة القمر، وقد أعطي هذا الاسم لجميع المهمات الهندية لاستكشاف القمر، والتي بدأت في أكتوبر/ تشرين الأوّل من العام 2008، عندما احتفل الهنود بنجاح مهمة شاندرايان-1، لتصير "إسرو" سادس وكالة فضاء تنجح في إرسال مركبة إلى مدار القمر.
وعلى الرغم من أنّ المسبار تعطّل بعد أقل من عام على إطلاقه، فإنّه نجح في إتمام معظم أهداف الرحلة. مع ذلك لم يكن ذلك كافياً لإيقاف النقاش حول جدوى إنفاق الحكومة قرابة 56 مليون دولار على مشروع استكشاف الفضاء، فيما يعاني عشرات الملايين من الناس من الفقر المدقع وانعدام قدرتهم على تحسين ظروف حياتهم.
واصلت "إسرو" تطوير برامجها، وعام 2013 صارت الهند أوّل دولة تنجح من محاولتها الأولى في إرسال مسبار إلى المريخ. واستغرقت رحلة القمر الاصطناعي مانجاليان إلى الكوكب الأحمر قرابة 10 أشهر ونصف، فيما بلغت تكلفة المشروع 73 مليون دولار، وهو الأدنى تكلفة مقارنة بمشاريع وكالات فضاء أخرى، بحسب "بي بي سي".
شكّل هذا النجاح علامة فارقةً للوكالة التي باشرت مساعيها لمواصلة استكشاف القمر عبر مهمة شاندرايان-2. عام 2019، أطلق شاندرايان-2، والذي بلغت تكلفته 140 مليون دولار، من مدينة سريهاريكوتا، وسط تغطية إعلامية واسعة. كان الهدف المعلن للرحلة إنزال مركبة وروبوت جوال بالقرب من القطب الجنوبي للقمر، ووضع مسبار في مداره. وعلى الرغم من نجاح عملية الإطلاق، فإنّ المركبة انحرفت عن مسارها خلال هبوطها، ممّا أدى إلى ارتطام المركبة بسطح القمر بعنف، وانقطاع التواصل بها.
في وقت لاحق، كشف تقرير تحليل الفشل المقدم إلى "إسرو" أنّ خللاً في البرمجة كان وراء تحطّم المركبة. إثر فشل التجربة الثانية، عاد الباحثون والعلماء في وكالة الفضاء الهندية إلى العمل مجدّداً، ليتمّ إطلاق مركبة شاندرايان-3 في يوليو/ تمّوز الماضي.
وبعد هبوطها بنجاح، أعلنت "إيسرو"، الخميس، عبر "إكس"، أنّها بدأت باستكشاف سطح القمر بواسطة الروبوت المتحرّك "برغيان" (الحكمة باللغة السنسكريتية)، وكتبت: "نزل الروبوت المتحرّك من المركبة وقامت الهند بجولة على القمر!". وبحسب وكالة فرانس برس، سيتجوّل الروبوت المزوّد بست عجلات والذي يعمل بالطاقة الشمسية في المنطقة المجهولة، وسيبث صوراً وبياناتٍ علمية خلال مهمته التي تستمر أسبوعين.
سنوات حافلة
تعد الميزانية التي تخصصها الهند لبرنامجها الفضائي منخفضة نسبياً، لكنّها ارتفعت بشكل كبير بعد مهمة شاندرايان-1 عام 2008. مع ذلك، فإنّ كلفة المهمة الحالية لم تتجاوز 75 مليون دولار، والتي تعد ضئيلة مقارنة بميزانيات مشاريع الوكالات الفضائية الأخرى.
تنقل "فرانس برس" عن خبراء أن بإمكان الهند إبقاء التكاليف منخفضة عبر استنساخ التكنولوجيا القائمة وبفضل توافر المهندسين الحرفيين الذي يتلقون أجوراً أقل بكثير من نظرائهم الغربيين.
وتخطّط الهند لإرسال مسبار باتّجاه الشمس في سبتمبر/ أيلول المقبل. كذلك، من المقرّر أن تطلق مهمة مأهولة مدتها ثلاثة أيام إلى مدار الأرض العام المقبل. كما تخطط لمهمة مشتركة مع اليابان لإرسال مسبار آخر إلى القمر بحلول العام 2025، ومهمة أخرى إلى مدار كوكب الزهرة خلال العامين المقبلين.