عُرضت الحلقة الأولى من مسلسل The Wire في الثاني من يونيو/حزيران عام 2002. تُتبَع جملة كهذه، عادة، بشيء من قبيل "والباقي يعرفه التاريخ"... إلّا أنّ مسيرة المسلسل لم تكن بهذه السلاسة، التي قد تشبه مسيرة لاعبٍ كرة قدم موهوب لعب مباراته الأولى لناديه. فقبل أن يحظى العمل بالتقدير المستحق الذي نلحظه بمجرد ذكر اسمه، مرّ المسلسل بفترة كان التقدير فيها فاتراً في أحسن الأحوال.
ومثل كلّ الأعمال التي نذكرها، حظي The Wire، الذي أنتجته HBO، بحصته من السجالات الفريدة، التي شرعنت أو حرّمت تشبيهه بالرواية الديكنزية أو التراجيديا الإغريقية، ومر بعضها على الفوارق بين الرواية والعمل المتلفز، إضافة إلى بعض القراءات الراهنة، التي رأت أن العمل نال أكثر من حصته العادلة من التقدير.
اليوم، بعد عشرين عاماً، لا يزال ترشيح المسلسل لزملاء العمل أو الأصدقاء، شيئاً يتكرّر ومنخفض المخاطر، ولا تزال إعادة متابعته مشروعاً مؤجلاً للعديدين. وفي كلتا الحالتين، فإننا إذاً نتحدث عن عملٍ لم ينل الزمن منه.
تذكّر الممثل الأميركي، ونديل بيرس (Wendell Pierce)، المسلسل منذ أيام، مادحاً ما يقوله هذا العمل الدرامي حتى اليوم، عن العطب في الولايات المتحدة الأميركية. قد تكون هذه الإشادة صادرة عن أحد أفراد العمل، وقد تكون على شكل تغريدة محدودة الأحرف. لكن المتابع ليس محدوداً بها، ويمكنه أن ينطلق من المسلسل نحو بحثٍ أوسع. وفي الواقع، إن الطريقة التي يشخص بها العمل "المشكلة" قلّما نجد ما يماثلها في عالم التلفزيون. فعلى امتداد خمسة مواسم، يشرّح The Wire مجتمعاً بأكمله، بسياسييه ورجال قانونه وتجار مخدراته، وأعصابه الاقتصادية ومؤسساته التعليمية وجهاز صحافته. وإذا كانت قراءة الجملة السابقة بحد ذاتها تبدو شاقة بعض الشيء، فإن تحويلها إلى دراما مهمة أكثر صعوبة، وتؤكد حجم ما كان المسلسل يريد قوله.
على امتداد خمسة مواسم، لا يعرض The Wire كل واحدة من هذه الجزئيات بوصفها قضية منفصلة، بل يدرس تفاعلها سويةً، ودورها في تكوين بالتيمور التي يصورها المسلسل، وحالة الانحدار التي تعيشها. وبالنسبة للكثيرين، فإن هذه النظرة البانورامية، تبدو اليوم ضرورية لتحليل واقعٍ يختلف عن ذاك الذي صوره العمل مطلع القرن الواحد والعشرين، وقد تكون أبرز اختلافاته هي تصاعد حدة الأسباب التي أدت إلى الانحدار في المقام الأول.
ضمن عالم الدراما نفسها، ميزت هذه النظرة العمل عن "الدراما البوليسية" التي سبقته أو تلته. لا وجود في بيئة قاسية كهذه لأبطال وأشرار يقفون على جهتين متناقضتين. وعلى النقيض، فإن حالة من الرمادية التي يصعب إطلاق الحكم عندها، تخيّم على العمل بإتقان. وحين يتعلق الأمر بدراسة المنظومة التي تنتج مأساة بهذا الحجم، فإن الإدانات الفردية قد تكون أقل التفاصيل أهمية بكل حال. وعوضاً عن ذلك، يخوض The Wire رحلته الجريئة، مبتعداً كل البعد عن النوع البوليسي وما يقوله عن الحرب على المخدرات، مغلباً الطابع التأملي الذي ينتج عنه خطاب سياسي متكامل، قلما نجد نظيراً له في الأعمال التلفزيونية.
وعند هذا الحد، قد يبدو المسلسل، لمن لا يعرفه، متكئاً على وقوفه في الجانب الصحيح من التاريخ وحسب، إلا أنه أبعد ما يكون عن ذلك. ففضلاً عن النفس الراديكالي الذي يرتبط بالعمل؛ نجد أنفسنا أمام عالمٍ غني، نشعر مع كل حلقة بالجهد الذي بُذل لرسم تفاصيله.
في The Wire، تنجح أكثر الشخصيات هامشية في إثارة رد فعلٍ لدى المتلقي، وتحظى كل واحدة منها بقصة فريدة وتفاعل مع محيطها الذي يلعب الدور الأبرز في تكوينها وفي فهمنا لها. فما قد يبدأ بتحفظٍ على شخصية مثل "بودي"، ينتهي بتعاطف معه وتورط عاطفي بمصيره. والحقيقة، إن هذه القدرة على الرسم وإضفاء التفاصيل، تتجسد بأوضح أشكالها في شخصية عمر ليتل. فرغم عدد شخصيات العمل الكبير، والتنوع الهائل في ما بينها، يكاد يجمع أي محب للعمل على تعلّقه الأكبر بالشخصية التي أداها الممثل الراحل مايكل ك. ويليامز (1966 - 2021)، وكأنها البطل غير الرسمي لحكاية لا أبطال فيها. فمن أين تنبع هذه الهالة؟
لا شك أن البداية ستكون عند ويليامز؛ فمهما كان التعقيد الذي تُبنى عليه شخصية كهذه، تبقى العين أولاً بحاجة ما تدركه، وهو ما أتقنه ويليامز بطريقةٍ يصعب عندها تصوّر ممثل آخر، يمكنه لعب هذا الدور أو مجاراته، ومدّنا كمشاهدين بلحظاتٍ من الحب الصرف والعنف والصلابة والهدوء الحديدي، التي نرى في كل واحدة منها إنساناً مهما ظهرت فرادته أمامنا، نستطيع الإحساس بصلةٍ صادقة تجاهه. إلا أن جزءاً من الإجابة يكمن في الكتابة أيضاً، وبقدرة على تجاوز تقليدٍ موغل في القدم من الصور النمطية والكسولة، التي قد تؤثر في كتابة شخصية كهذه عادة، وتعيق فهم وعرض التداخل في العوامل المكوِّنة لها، كالعرق والطبقة والتوجّه الجنسي، وكيف تتمظهر بالعلاقة مع ظرفٍ أعم مطلع هذا القرن، ومع المشاهِد نفسه حينها، بما راكمه من توقعاتٍ مسبقة عن تركيب هذه الشخصية التي نادراً ما تكون المثلية الجنسية ضمنها.
ينطبق الأمر ذاته على شخصياتٍ أخرى بالطبع، مثل بابلز، الذي ينجح العمل في إخبارنا أن صراعه لاستعادة زمام السيطرة على حياته ليس ضد نفسه، بل ضد منظومة بأكملها تحرم أمثاله من أي شكلٍ من أشكال الضمان أو الفرص الثانية، أو كاتي الذي يخوض هو الآخر رحلته بعد الخروج من السجن، وفرانك سوبوتكا الذي يحاول -ضمن اللعبة الخاسرة نفسها- ضمان مصلحة من يمثلهم بعد غياب أشكال الحماية الأخرى.
والحقيقة، أن الجزء الأعظم من شخصيات العمل، تنطبق عليه هذه الشروط، إن كانت تلك المتعلقة بالبناء المتقن الذي يجعل عالم العمل أكثر حيويةً وألواناً، أو بالدور الذي تلعبه في دعم مقولات العمل.
لا شك أن كثيراً قد تغيّر منذ نهاية العمل؛ إذ أثار مقتل الأميركي جورج فلويد، على يد الشرطة منذ عامين، ردود أفعالٍ وصلت بدورها إلى الإنتاج الدرامي، كما حدث مع مجموعة من الأعمال عن الشرطة الأميركية، التي وجدت نفسها أمام عالمٍ تغيّر بشكلٍ لن يقبل وجودها بصيغتها القديمة، وأفسح المجال أمام أعمالٍ أخرى، مثل We Own This City على سبيل المثال.
وفي حالة The Wire، فإن العمل لا يزال صالحاً اليوم بقدر ما كان صالحاً لحظة إنتاجه، وليس ضمن سياقٍ أميركي حصرياً. فرغم كل الجهد البحثي المبذول لتكون بالتيمور حاضرة في المقدمة، دائماً ما كان العمل محبباً لجمهورٍ أوسع، وقادراً، بأسلوبٍ فني فريد، على لمس موضوعات تهمهم، إن كانت الفروقات بين القانون والعدالة، أو العلاقة بين ذواتنا والأماكن التي نشغلها أو، كما يذكرنا The Wire نهاية كل موسم، بأن أزماتنا الكبرى ليست مسائل شخصية، ولا تسهم بعض طرق حلها إلا في تغيير اللاعبين، بينما تبقى اللعبة نفسها قائمة.