لافت على نحو يتعذر تجاهله التقاطع المدهش بين بعض الأفلام، رغم الفاصل الزمني لإنتاجها، ومن ذلك مفهوم العدالة في فيلمي "اللص والكلاب" (1962) من إخراج كمال الشيخ، و"الهروب" (1991) من إخراج عاطف الطيب، ويكاد يكون أفضل أفلامه.
في "اللص والكلاب"، يخرج سعيد مهران من السجن، وفكرة الانتقام ممن سلبه زوجته وابنته وماله تستحوذ عليه. لكنه لسبب غامض، يفشل في كل محاولاته للانتقام. يحاول سرقة بيت رؤوف علوان (الصحافي والاشتراكي السابق) فيفشل. يذهب إلى بيته حيث يقطن عليش سدرة الذي خانه واقترن بزوجته بعد سجنه، ويطلق النار على من يفترض أنه غريمه سدرة، فيكتشف أنه قتل مستأجراً جديداً للبيت.
بعد ذلك، يذهب إلى بيت رؤوف علوان ليقتله، وعندما تتوقف سيارة علوان داخل الفيلا، يطلق سعيد مهران النار على من يترجل منها، لكنه يكتشف في اليوم التالي أنه قتل الخادم الذي يعمل في المنزل، وليس غريمه الاشتراكي.
في فيلم "الهروب"، يحدث العكس تماماً. يخرج منتصر (أحمد زكي) من السجن لينتقم ويبرئ ساحته وسمعته. في البداية، يقتل منتصر صاحب المكتب الذي كان يعمل لديه، وكان قد تسبب بسجنه، ثم يذهب إلى رجوات، شريكة مدحت التي كانت تعمل في الدعارة، ويكتشف أنها أصبحت مديرة مدرسة، فيتصارع معها فتُقتل. يرتب لقاء مع صديق قديم له، كان يعمل في العملات، وكان قد ترك لديه مبلغاً من المال، فيخونه ثانية بأن ينصب له فخاً مع الشرطة لاعتقاله، لكن منتصر ينجو بينما يُقتل "الخائن" تحت عجلات القطار.
تتحرك قصة "الهروب" ضمن خطوط متوازية، تتناول عمليات الثأر والانتقام من جهة، في موازاة فساد أجهزة الأمن التي يريد طرف منها استثمار قصة ملاحقته لأغراض الترقي وتحويل الأنظار عن تنامي ظاهرة التطرف الديني، وينتهي منتصر قتيلاً برصاص الشرطي الفاسد إذا شئت، هو والشرطي الجيد الذي يُقتل وهو يحاول أن يحمي ظهر منتصر من الرصاص بجسده.
الفيلم جميل، وكذلك "اللص والكلاب"، على الفارق بين زمني إنتاجهما ورؤية مخرجيهما لأحداث القصة الأصلية. وأظن أن فشل سعيد مهران في تحقيق العدالة بيديه يعود إلى سببين رئيسين؛ أولهما أن بطل الرواية الأصلي الواقعي، الذي كتب قصته محفوظ لاحقاً، لم ينجح فعلاً في قتل الأشخاص المستهدفين، بل قتل أبرياء طيلة الوقت، ربما لسوء الحظ ليس أكثر، لكن ذلك تحوّل لدى نجيب محفوظ إلى ثيمة كبرى تقوم على أننا لا نستطيع الرجوع بالمجتمعات الحديثة، في ظل وجود دولة، إلى غابة تقوم على الغرائز والقوة وحسب، وأن العدالة شأن المؤسسات لا الأفراد.
وعلينا أن نتذكر هنا أن الرواية كتبت عام 1961، في ذروة صعود الناصرية القائمة على مفاهيم العدالة الاجتماعية ومركزية الدولة في حياة الناس وتطور المجتمعات.
يختلف الأمر مع "الهروب"، فالفيلم أنتج مطلع تسعينيات القرن الماضي، في بداية انحدار الدولة التي بدأت بعدها تشيخ في النصف الثاني من حقبة الرئيس السابق حسني مبارك، حيث الفساد وتوحش الطبقة الحاكمة والثرية والتماهي مع النموذج الأميركي، مع ما صاحب ذلك من فساد قيم ومؤسسات، الأمنية تحديداً، وترك المجتمع يتفكك، أي العودة به إلى الغابة، والحال هذه يجب على العدالة أن تتحقق بأي طريقة ممكنة لإعادة الاعتبار للبلاد المهددة آنذاك فعلاً في وجودها، وتحولها إلى كيان وظيفي في خدمة الولايات المتحدة وإسرائيل.
هذا يفسر ربما سبب تسمية البطل، منتصر، وشاع في الكتابة الروائية المصرية توظيف الأسماء على نحو رمزي في مرحلة ما، وكذلك نجاح منتصر متقصداً أو بالصدفة في كل عمليات الانتقام التي قام بها.
إنه الفرق بين حقبتين ومفهومين لوظيفة الدولة ودورها، ما جعل سعيد مهران يفشل لتنجح الدولة، بينما تُرك منتصر لينتقم، لأن الدولة كانت تتراجع وتكاد تضمحل.
لافت حقاً أن تكون "المومس الفاضلة" هي الملاذ الأخير لبطلي الفيلمين: عاملة الجنس نور (شادية) في "اللص والكلاب"، والراقصة صباح (هالة صدقي) في الهروب. وقد ظهر هذا النموذج لدى محفوظ أول مرة في روايته "زقاق المدق" (1947) ممثلاً في شخصية حميدة التي أدت شادية دورها في الفيلم المأخوذ عن الرواية.