لم يكتفِ الاحتلال الإسرائيلي، خلال عدوانه المتواصل على قطاع غزة مُنذ الأسبوع الأول لشهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بقتل آلاف المدنيين العُزل أو تدمير المُنشآت والمباني المدنية والسكنية الآمنة، بل تجاوز ذلك ليستهدف الأعيان الثقافية والمعنوية، في مُحاولة لكي الوعي، وتشويه المظاهر العامة للقطاع.
وإلى جانب الأهداف العسكرية والسياسية الإسرائيلية المُعلنة في العدوان على قطاع غزة المُحاصر مُنذ سبعة عشر عاماً، فإن الحرب تحمل أيضاً أهدافاً لمحو وتشويه الذاكرة الفلسطينية، وتجريدها من أماكن أساسية.
وتعمّدت الطائرات الحربية الإسرائيلية تدمير المُجسمات الرمزية، مثل النصب التذكاري لحديقة الجُندي المجهول وسط مدينة غزة، الذي يرمز إلى تضحيات الشعبين الفلسطيني والمصري، إلى جانب تدمير كثير من الميادين التي ترمز للمقاومة، مثل ميدان أبو حصيرة الذي يضم مجسماً لطائرة كبيرة، وميدان الساحة الذي يضُم مجسماً لدبابة إسرائيلية تمكن المقاومون من خطف أسرى منها، في تلميح إلى عمليات خطف الجنود.
خلال العملية العسكرية البرية، جرّفت مركبات الاحتلال حديقة الجندي المجهول التي تتوسط مدينة غزة، في مُحاولة إسرائيلية للتضييق الإضافي على الفلسطينيين الذين يُعانون بالأساس من انعدام الأماكن الترفيهية.
ويلفت الناطق باسم بلدية غزة، حسني مهنا، إلى أن الاحتلال الإسرائيلي لم يتوقف عند حد قتل الأطفال، الذين شكلت نسبتهم نحو 45% من عدد الشهداء، بل تجاوز ذلك ليستهدف مركز إسعاد الطفولة، الذي يُعنى بتقديم خدماته للأطفال، وشرائح مُجتمعة مُختلفة، داعياً مُنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) إلى ضرورة التحرك، وحماية الأطفال ومرافقهم من الجرائم الإسرائيلية المتواصلة.
ويوضح مهنا، في حديث إلى "العربي الجديد"، أن الطائرات الحربية تجاوزت مرحلة تدمير البنية التحتية، التي طاولت مُختلف المفترقات العامة والمباني الحيوية، عبر استهداف عدد من الرموز المعنوية الهامة، كالنصب التذكاري لحديقة الجندي المجهول، ومركز رشاد الشوا الثقافي العريق، الذي شهد تنظيم العديد من الفعاليات والمحطات المهمة في تاريخ القضية الفلسطينية، ويُعتبر أهم المراكز الثقافية في فلسطين، كما يضم مكتبة ديانا تماري صباغ، وهي من أهم المعالم في المدينة.
ويُشير مهنا إلى أن الاحتلال الإسرائيلي دمّر وأحرق مبنى الأرشيف المركزي، الذي يضم آلاف الوثائق التاريخية التي توثق مباني المدينة، ومراحل تطورها العمراني، إلى جانب الاستهداف المُباشر للمكتبة العامة وتحويلها إلى رُكام، إذ كانت تضُم آلاف الوثائق، والكُتب التاريخية في مُختلف العلوم الإنسانية والطبيعية. ويُعتبر استهداف المنشآت المدنية والمرافق الخدماتية، وفق الحسني، خرقاً واضحاً للقانون الدولي الإنساني، داعياً المُجتمع الدولي للوقوف أمام مسؤولياته، ووقف العدوان الإسرائيلي ضد المدنيين، والمُنشآت المدنية، والمعالم الحيوية والخدماتية، والرموز الثقافية والتُراثية والأثرية، إلى جانب إدانة استهداف الاحتلال هذه المرافق المحمية بموجب القانون الدولي الإنساني.
وتجاوز القصف الإسرائيلي للعديد من المساجد والكنائس، بالاتجاه نحو استهداف الأثري منها، عبر القصف المُباشر وعلى أكثر من مرحلة للجامع العمري الكبير، الذي يُعتبر من أكبر وأقدم مساجد فلسطين، كما يحمل رمزية دينية وتاريخية، كانت تُعبر عنها جدرانه الحجرية السميكة، وبُنيانه المعماري اللافت، وأعمدته الضخمة التي تحمل الأقواس المُزخرفة.
وتعمد الاحتلال الإسرائيلي أيضاً تغيير الملامح العامة لمُختلف المُحافظات، عبر قصف مفترقات الطرق والأبراج والمحال التجارية التي تُميزها تارة، وتجريف الشوارع الرئيسية المُزينة بأعمدة الانارة واللافتات التجارية تارة أخرى، وقد بدأ ذلك النهج بتصحير حي الرمال، الذي يُعتبر من أرقى أحياء المدينة والعاصمة التجارية لها، فسوّاه بالأرض، أيضاً جرّف الأسواق الشعبية والتُراثية القديمة وأبرزها سوق الشجاعية، وذلك لزيادة الكُلفة المادية التي سيُعاني منها الفلسطينيون حتى بعد انقشاع غُبار العدوان.
واستكمالًا للهدف الإسرائيلي المُتعلق بتشويه الملامح العامة للقطاع، فقد دمّر مُعظم تفاصيل الواجهة البحرية، التي شهدت التوغل الإسرائيلي الغربي على محاور عِدة، فدمّر أيضاً الاستراحات والفنادق والمطاعم والجلسات البحرية على طول شاطئ البحر، علاوة على تجريف أجزاء واسعة من شارع الرشيد.