اسمُ الفتى الذي أكتب عنه سامر، أو يوسف، أو ربّما ميّار ــــ أو أيّ اسم آخر. ومثل أي فتى آخر من أبناء جيله، كان كأس العالم، الذي استضافته كوريا الجنوبية واليابان، عام 2002، أوّل مونديال يعيه ويتذكّره من ماضيه الشخصي، لا انطلاقاً من كلام الآخرين.
كلامُ الآخرين أخبره عن زيدان ورفاقه عام 1998. واختلط ما قالوه بذكرياته حتى ظنّ، لفترة، أنه حضر بطولة 1998 وشجّع فرنسا. لكنّه، لاحقاً، سيخلص إلى أن ذلك كان مجرّد تملُّكٍ لقصص سمعها ومع الوقت نسبَها إلى نفسه. وإذا أراد أن يكون صادقاً مع نفسه، اليوم، فإنّه لا يتذكّر، قطعاً، ممّا شاهده على التلفزيون، قبل 2002، إلّا أمرين: شارة نهاية البثّ الكئيبة التي كان يختتم بها التلفزيون السوري نهارَه، وهجمات الحادي عشر من أيلول. كان ذلك، كما يعرف الجميع، قبل كأس العالم بأقلّ من عام. شاهد فيديو الهجمات والأخبار حولها بلا توقّف. وكان يجلس قرب والده وينظر مثله إلى تلفزيون وضعته العائلة فوق طاولة واطئة على سطح البيت. كان السطح مكشوفاً على السماء، تسقط عليه، أحياناً، في الصيف، فوارغ الرصاص الذي يطلقه ناسٌ خلال أعراسهم.
لكنّ الأمر تغيّر في ربيع 2002. كبرت العائلة وتزوّج الأخ الكبير. وانضمّت عائلة سامر إلى مهرجان العمار الذي تشهده أحياء حلب الشعبية كلّ صيف. صار السطح المكشوف طابقاً ثانياً للبيت. صار مسقوفاً وصار صالوناً كبيراً وثلاث غرف. والمعمرجيان اللذان رفعا حجارة الطابق الجديد وصقلاها، أي أبو التشيت وابنه، ذهبا، وجاء الآن حسين وأخوه، اللذان سيقومان بتطيين الجدران ودهنها وتزيينها.
الآن، في هذا اليوم الأخير من مايو/أيّار 2002، لا تزال طينة الجدران خضراء. والأرض، المفروشة بأكياس بلاستيكية وكراتين مبسوطة، يغطّيها غبار وطين يجفّ ويتحوّل إلى حجارة هشّة. حسين يعمل على سيبة عالية في طرف الصالون، وأخوه على أُخرى، بينما التلفزيون، الموضوع على طاولة حديدية بين علب الدهان والنفط والأزاميل والفراشي وورق الزجاج، ينقل المباريات التي يستمعان إليها أكثر ممّا يشاهدانها. وسامر لا يستطيع أن يشاهد دقيقتين أو ثلاثاً من المباراة حتى يذهب ليحضر لهما ماءً بارداً أو عصيراً، أو ليزوّدهما بالخبز والبصل الأخضر والفليفلة وهما يأكلان المقالي أو الملوخية والرزّ.
بعد بداية المونديال بأيام قليلة، وبين مباراتين وضربتَيْ طينة أو ورق زجاج، سيشاهد سامر، مع حسين وأخيه، أخباراً عن "انهيار" سدٍّ كان اسمه سدّ زيزون، قرب حماة. هل بثّ التلفزيون الحكومي، حينها، مشاهد الفيضان وغرق الناس وبيوتهم؟ لا يذكر من ذلك شيئاً الآن، بل سيُفاجأ لو قام نظامٌ مثل النظام السوري بالسماح بأمر كهذا. لكنّه يتذكّر أنّ الجميع، في كلّ مكان بالحيّ والمدينة، تكلّموا عن السدّ وانغمار قرىً بالماء وغرق سوريين. تكلّموا عن ذلك لساعات أو أيام، ثم عادوا إلى المونديال.
في كأس العالم التالي، 2006، كانت حكاية التعمير هذه قد ذهبت إلى مكان بعيد في اللاوعي. كأنّ الطابق الثاني كان موجوداً منذ الأزل. كبر سامر وكبر ابنا أخيه الذي تزوّج قبل أربعة أعوام وكبر الجميع. دهان الجدران فقد بعضاً من نصاعته والتلفزيون صار له مكان ثابت داخل خزانة من خشب، بين صحون وأوان وكاسات مصمودة. ولم يكن الفتى يعرف أنّ المونديال التالي، 2010، سيكون آخر ما سيشاهده في بيته ومدينته وبلده. كم كان عمره؟ ربما ثمانية عشر، أو سبعة عشر، أو تسعة عشر.
سيغادر بلده، مثل كثيرين من حوله، تحت الرصاص والاعتقالات. ومثل كأس العالم وسد زيزون، سيشاهد، على التلفزيون، من بعيد، صوراً لانهيار مباني حيّه، وتصدّع بيت أهله المهجور، تحت قصف براميل النظام وطائرات روسيا.