أثارت عملية القرصنة الجوية البيلاروسية بأمر مباشر من رئيسها ألكسندر لوكاشينكو، الذي ثار عليه الشارع منذ العام الماضي، أسئلة حول المدى الذي يمكن أن تذهب إليه أنظمة قمعية لإسكات الصحافة والمنتقدين. فالقرصنة الجوية المحكمة بحق صحافي استقصائي شاب مثل رومان بروتاسيفيتش البالغ 26 سنة، والمعارض لحكم لوكاشينكو، اضطر الأخير، حليف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى الزج باسم حركة "حماس" باعتبارها "وجهت تهديداً إرهابياً بوجود قنبلة على متن طائرة ريان إير، لوقف الحرب على غزة"، رغم أن الحرب كانت قد توقفت. الانتحال والتزوير هذان يكشفان إلى أي حد يمكن أن تذهب الأنظمة الديكتاتورية لاستغلال وتشويه حركات أخرى وإلصاق تهمة الإرهاب بها لتحقيق مآربها، في مزيد من القمع وترهيب المواطنين.
بعيداً عن الاستعراض التلفزيوني في بيلاروسيا، الشبيه ببقية أنظمة الاستبداد، حول اعترافاته واعتبار اختطافه عملاً بطولياً ووطنياً، يبدو أن رومان بروتاسيفيتش يشكل كابوساً للديكتاتورية في مينسك. فهو ولد بعد عام واحد من بدء نظام لوكاشينكو الاستبدادي (1994) في "روسيا البيضاء" (بيلاروسيا) قبل 26 سنة، وعمل منذ فترة طويلة في الصحافة الاستقصائية التي فضحت أساليب الحكم وصلاته بالكرملين والتعذيب والقمع اللذين يتعرض لهما مواطنوه من قبل الأجهزة السرية في مينسك.
مبكراً أدرك رومان أن نظام لوكاشينكو بات يضعه على قوائم التصفية أو الاعتقال، وكتب بنفسه في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي على صفحته في "تويتر" (الذي أغلق بعد 23 الشهر الحالي) بأنه بات على لوائح الإرهاب "وهذه ليست مزحة، جرى وضعي رسمياً كإرهابي من قبل جهاز كي غي بي البيلاروسي على قائمة الإرهابيين، مثل قائمة المنتمين لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)"، وهو ما أعادت تأكيده صحف أوروبية مختلفة. كان رومان يعتبر تلك التهمة "سخيفة"، ملحقاً إياها بتعريف لنفسه على أنه "أول صحافي إرهابي في التاريخ"، كنوع من الاستهزاء بسلطة لوكاشينكو.
الشاب الذي ولد في 5 مايو/ أيار 1995 (استلم لوكاشينكو السلطة في العام الذي سبق ذلك) نشط منذ كان في سن السابعة عشرة في مناهضة الديكتاتورية في بلده، وعرضه ذلك في 2012 إلى الاعتقال، لكنه واصل إنشاء منصات ومجموعات تجتذب الشباب البيلاروسي الداعي إلى الديمقراطية والتخلص من حكم الفرد المستمر منذ 25 سنة.
في فترة مراهقته، وأثناء دراسته الثانوية، انضم الشاب في سن الـ16 سنة إلى الجبهة الشبابية، أكبر حزب مؤيد للديمقراطية في بيلاروسيا، وتعرض لأول مرة في حياته للضرب المبرح عند اعتقاله من قبل رجال يرتدون لباساً مدنياً في 2012، وذلك بهدف الحصول على كلمات المرور السرية لمجموعتين مناهضتين للوكاشينكو. ويبدو أن القمع الذي واجهه هو وبقية الحراك الشعبي فيه لم يثنه عن مواصلة معارضة لوكاشينكو، رغم أنه اعترف في الأشهر الماضية أنه تلقى تهديدات بالقتل والتصفية.
نشاطه الأبرز، منذ اضطراره في 2019 إلى مغادرة بيلاروسيا نحو بولندا أولاً ثم ليتوانيا لاحقاً، هو ما أقلق السلطات السياسية والأمنية في بلاده، فقد كان يشغل رئيس تحرير قناة المعارضة الرئيسية "نيكستا" Nexta التي تجتذب متابعين بالملايين من داخل بلده، متحدياً سلطة مينسك التي صممت على إسكاته.
وبعيداً عن تخمينات الصحف الأوروبية بوجود عملاء بيلاروسيين على متن الطائرة التي أقلت الشاب و173 راكباً من أثينا باتجاه العاصمة الليتوانية فيلنيوس، يبدو أن سلطة لوكاشينكو ذهبت بعيداً في الاستهداف الذي لاقى استهجاناً وانتقادات أوروبية وعالمية، رغم أن بعض الصحافيين في الدول الاسكندينافية والبلطيق لا يرون أن المقاطعة كافية كرد على تلك القرصنة.
وكالة الصحافة الفرنسية نقلت عن ركاب في الطائرة التي أُعلن عن تحويل مسارها إلى مطار مينسك بدل فيلنيوس أن الشاب رومان بروتاسيفيتش ارتسمت على وجهه علامات رعب وذعر وقال للركاب "لا، سيقتلونني، سيحكم عليّ بالإعدام"، فيما قال مضيف الطائرة إنه "آسف، علينا فعل ذلك ولا خيار آخر لنا". فكانت النتيجة اختطافه وصديقته الناشطة معه على الإنترنت صوفيا سابيغا، وهي طالبة جامعية في كلية الحقوق بجامعة فيلنيوس الليتوانية.
كان رومان في طريق عودته من أثينا التي حضر فيها مؤتمراً حول الاقتصاد رفقة زعيمة المعارضة البيلاروسية في المنفى الليتواني سفيتلانا تيخانوفسكايا. وقد لمع نجم الشاب منذ الانتخابات في 9 أغسطس/ آب 2020، التي ربح فيها لوكاشينكو بنسبة 80 في المائة، وأصبح عدواً رئيساً لاستخبارات البلد ورئيسها لوكاشينكو شخصياً. فهو أسس وقاد من خلال قناة "نيكستا" على "تيلغرام" تحركات الشارع البيلاروسي في أعقاب تلك الانتخابات، وعجزت السلطات عن وقف المحطة والمراسلات المشفرة. وأدت القناة دوراً رئيسياً في ما بات يعرف بـ"الصحافة الشعبية" بتوثيق مستمر عبر الفيديو للقمع الوحشي للشرطة ضد المتظاهرين، وكانت القناة تفضح أساليب وتكتيكات السلطة وساهمت في تجنب كثيرين الاعتقال. ونشرت القناة أسماء أكثر من ألف شخص ساهموا في قمع المظاهرات، وكشفت عن وجوه ملثمين استخدمتهم السلطة، وهو ما زاد نقمة لوكاشينكو شخصياً ضد الشاب الصحافي رومان، وقرر في نهاية المطاف إعطاء الأمر باختطاف الطائرة التابعة لـ"راين إير"، وبالتالي اختطافه من على متنها، رغم ما شكله ذلك من خرق واضح للقوانين الدولية.
وعلى طريقة الأنظمة الاستبدادية أظهرته سلطة لوكاشينكو على التلفزيون الرسمي مساء الاثنين ليقول إنه تجرى معاملته "بشكل قانوني ومثالي، ما زلت أتعاون مع المحققين واعترفت بأني نظمت أعمال شغب جماعية". وردّ والده دميتري بروتاسيفيتش بأن تلك الاعترافات جاءت تحت الإكراه، "ويبدو أنه تعرض للضرب قبل الظهور أمام الكاميرا، ويمكن روية مسحوق التجميل لإخفاء الآثار على وجهه".
Террористам свойственно записывать такие видео захваченных заложников pic.twitter.com/geQBdum3lf
— Tikhon Dzyadko (@tikhondzyadko) May 24, 2021
منظمة "مراسلون بلا حدود" ذكرت في تقرير صدر مؤخراً أن "بيلاروسيا هي الدولة الأكثر خطورة لعمل الصحافة والصحافيين المستقلين". وأشار التقرير إلى مئات الاعتقالات التعسفية التي طاولت الصحافيين والاعتداءات العنيفة عليهم وسحب تراخيص إعلامية وحجب مواقع الصحافة المستقلة على الإنترنت.