ارتبط اسم كوريا الجنوبية، خلال العقود الماضية، بسياراتها وهواتفها المحمولة من شركات مثل "سامسونغ" و"هيونداي" و"إل جي"، بينما ظلت أفلامها وبرامجها التلفزيونية وإنتاجاتها الموسيقية محصورة بجمهور إقليمي. لكن الأمر تغير الآن، إذ تهيمن فرق الـ"كيه-بوب"، ومسلسلات مثل "لعبة الحبّار" Squid Game، وأفلام مثل "بارازيت" Parasite، على المشهد الثقافي العالمي.
حقق فيلم "بارازيت" للمخرج الكوري الجنوبي بونغ جون-هو شهرة عالمية، إذ فاز بـ"السعفة الذهبية" في "مهرجان كانّ السينمائي الدولي" 2019، قبل أن يحصد عام 2020 أربع جوائز "أوسكار"، بينها "أوسكار" أفضل فيلم، ليكون العمل الأول غير الناطق بالإنكليزية الذي يفوز بهذه الجائزة منذ انطلاق هذه المسابقة عام 1929، ثم نال جائزة "سيزار" الفرنسية عن أفضل فيلم أجنبي.
كسرت جوائز "أوسكار" التي حصدها "بارازيت" سقفاً زجاجياً عمره 92 عاماً، وفتحت حقبة جديدة للأفلام الكورية وغيرها من الأعمال السينمائية الأجنبية على المسرح العالمي. بعد تسلم بونغ الجوائز، قال للصحافيين حينها إن التواصل بين الأشخاص في أنحاء العالم يتزايد بشكل كبير ويصبح أكثر سهولة. وأوضح: "لذلك أعتقد أنه من الطبيعي أن نصل فيه إلى اليوم الذي لا يهم ما إذا كان الفيلم بلغة أجنبية أم لا، ولن يعتبر في وقت لاحق أنه من الغريب فوز فيلم أجنبي" بـ "أوسكار".
وجاء فوز بونغ التاريخي بعد عام من الذكرى المئوية للسينما الكورية الجنوبية، وتفتخر البلاد بامتلاكها صناعة سينمائية تحتل المرتبة الخامسة عالمياً، وأصبحت بارزة بشكل متزايد خلال المهرجانات في السنوات والعقود الأخيرة.
عام 2004 حاز فيلم "أولد بوي" للمخرج بارك تشان-ووك الجائزة الكبرى في "مهرجان كانّ السينمائي الدولي"، كما حصل فيلم "بييتا" للمخرج كيم كي-دوك في 2012 على جائزة "الأسد الذهبي" في "مهرجان البندقية السينمائي الدولي". حقق المخرجون الكوريون الجنوبيون نجاحاً كبيراً في هوليوود، تحديداً مع فيلم "ستوكر" من إخراج بارك عام 2013 ومن بطولة نيكول كيدمان وميا واسيكوفسكا.
شهدت السينما الكورية نهضة خلال التسعينيات مع حلول الديمقراطية بعد عقود من الحكم العسكري. عام 2007 قال الرئيس السابق اليميني، كيم داي جونغ، للمسؤولين الحكوميين: "وفروا الدعم المالي للفنانين، لكن لا تتدخلوا إطلاقاً في ما يفعلونه. بمجرد تدخل الحكومة، ستنهار الصناعة الإبداعية".
الإنجازات الكورية الجنوبية لم تقتصر على مجال السينما، ففي أكتوبر/تشرين الأول الماضي أصبح المسلسل الكوري الجنوبي "لعبة الحبّار" رسمياً العمل الأكثر شعبية الذي تنتجه منصة "نتفليكس"، مستقطباً 111 مليون مشاهد، بعد أقل من شهر على طرحه. يتناول المسلسل قصة شخصيات من الفئات الأكثر عرضة للتهميش في كوريا الجنوبية، بينها مهاجر هندي وهارب من كوريا الشمالية، تشارك في ألعاب الأطفال التقليدية، أملاً في الفوز بـ45.6 مليار وون (38.1 مليون دولار أميركي). ويُقتَل الخاسرون في هذه الألعاب.
واستقطب المسلسل جمهوراً كبيراً جداً من أنحاء العالم كافة، بفضل مجموعة عوامل أحدها جمعُه بين التسلية الطفولية وعواقبها المميتة، إضافة إلى الإنتاج المتقن والسينوغرافيا الضخمة. وألهم صناعة البزات التي يرتديها أبطال العمل، وأعاد الاهتمام بحلوى كورية جنوبية تقليدية، وأثار في البلاد نقاشاً بشأن بيئة المنافسة السامة، ودفع كثيرين إلى تعلم اللغة الكورية. وهذا الشهر، سمح المسؤولون في كوريا الجنوبية لـ"نتفليكس" بنصب تمثال يجسد اللعبة العملاقة في "لعبة الحبّار"، في "الحديقة الأولمبية" في سيول.
وأعلنت "نتفليكس"، الشهر الماضي، أن الشغف العالمي بالمسلسل اجتذب عدداً من العملاء الجدد أكبر من ما كان متوقعاً، فبعد هبوط حاد في أعداد المشتركين في النصف الأول من 2021، أضافت المنصة الأميركية 4.38 ملايين مشترك من يوليو/تموز حتى سبتمبر/أيلول، مما رفع عدد مشتركيها إلى 213.6 مليوناً في أنحاء العالم.
وذكرت وكالة "بلومبيرغ"، استناداً لأرقام داخلية في وثيقة لدى "نتفليكس"، أن قيمة مسلسل "لعبة الحبار" تقدر بنحو 900 مليون دولار أميركي، علماً أن تكلفة إنتاجه قيمتها نحو 21.4 مليون دولار أميركي فقط.
ويبدو أن الموجة الكورية لن تتلاشى قريباً، إذ أعلنت "نتفليكس"، في فبراير/شباط الماضي، وضع خطة لاستثمار 500 مليون دولار أميركي خلال السنة الحالية وحدها في مسلسلات وأفلام منتجة في كوريا الجنوبية.
كما أن المسلسلات التلفزيونية المسماة "كيه-دراماز"، أو الدراما الكورية، غزت الشاشات الصغيرة في آسيا.
أما مغنو الـ"كيه-بوب" ــ البعيدون في المبدأ عن السياسة ــ فتحضر أغنياتهم في الاحتجاجات في البلاد، إذ تصدرت أغنية "نحو العالم الجديد" Into the New World، لفرقة "غرلز جينيريشن" Girls' Generation، احتجاجات طالبات "جامعة إيوا للنساء" في سيول، المناهضة للحكومة، في 2016. وأصبحت أغنية "شمعة واحدة" One Candle، لفرقة "غاد" god، نشيداً غير رسمي لـ"ثورة الشموع" التي أطاحت رئيسة البلاد بارك كون-هيه، في 2017.
والعام الماضي، نشط الآلاف من جمهور الموسيقى الكورية من أنحاء العالم على الإنترنت، لإعاقة مجموعات يمينية وتوجهات سياسية. وتدخل هؤلاء في حملات سياسية ووسوم مثل "حياة البيض مهمة" و"اختطاف" تجمعات حاشدة للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
أما فرقة "بي تي إس" BTS فتعد ظاهرة موسيقية عالمية. فهي أول مجموعة كورية لموسيقى البوب تصل إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، حيث أقامت العديد من الحفلات المحجوزة بالكامل في لوس أنجليس وشيكاغو ولندن، وفرنسا. كما أنها أول فرقة كورية جنوبية ترشح لنيل جائزة "غرامي"، وأغنيتها "ديناميت" Dynamite هي أول أغنية لفنان كوري جنوبي على قائمة "بيلبورد" للأعمال الأكثر استماعاً.
ويمكن قراءة إقدام قاموس "أكسفورد" الإنكليزي، في سبتمبر/أيلول الماضي، على إضافة 26 كلمة جديدة من أصل كوري، على أنها علامة أخرى من علامات الغزو الثقافي الكوري الجنوبي أخيراً.