"أتعامل مع المواضيع العميقة بروح الفكاهة، لأنّها تُؤثّر على أناسٍ كثيرين. اعتدنا، في بلدي، أنْ نضحك من مصائبنا. هذه القصّة تتعلّق بأسرار الأسرة. بالإنكار والفجيعة. أحبّ سرد القصص التي تمسّني. صناعة الأفلام وسيلة تعبير عن نفسي، للتحرّر من الواقع، والسعي إلى الانتقام. أستطيع أنْ أرى نفسي في شخصية شادي".
هكذا علّقت المخرجة اللبنانية كريستي وهيبه على مشروع فيلمها "الحياة الحزينة للخنزير السعيد"، الذي نال الجائزة الكبرى (70 ألف درهم مغربي) لـ"محترف تطوان للمشاريع" (6 ـ 9 مارس/آذار 2023) في نسخته الأولى، في الدورة الـ28 (3 ـ 10 مارس/آذار 2023) لـ"مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط". أما شادي، بطل المشروع، فيبلغ 35 عاماً، ويعمل في فنّ الاستعراض. يرتدي لباساً تنكّرياً، ويُحيي مناسبات. بعد انفصاله عن حبيبته، يُقرّر مغادرة لبنان. بانتظار تأشيرته، يكتشف أنّ والده، الذي يظنّ أنّه قُتل برصاصة طائشة في الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، قُتل عمداً بأمرِ نائبٍ مُنتخَب، فيرغب في الانتقام منه، مُتنكّراً في زي "الخنزير السعيد".
كريستي وهيبه لبنانية تعيش في "تولوز" (فرنسا). لها فيلمان قصيران، وتكتب حالياً فيلماً ثالثاً، "كلّ شيءٍ على ما يرام". أما "الخنزير السعيد"، فأول فيلم روائي طويل لها، قامت بتطويره في ورشٍ عدّة. دافعت المنتجة كريستال يونس عن أسلوبها، قائلة إنّ وهيبه خلقت، في أفلامها السابقة، "أسلوبها الكوميدي الساخر، القادر على معالجة المواضيع كافة. عملنا معاً سابقاً. ما أحبّه في رؤيتها أنّه عندما نشرع في قراءة القصّة يبدأ الترفيه. إنّه أمر تلقائي ومُضحك وفريد. بكلّ صراحة، نحتاج إلى الكثير من هذه السينما في المنطقة. لدى كريستي الآن فيلم ذكي، يُفكّك مجتمعنا الذي يعيش حالة إنكار، ويختبئ، من دون وعي، وراء الأقنعة، مُتجنّباً مواجهة الواقع القاسي".
السينما اللبنانية محظوظة في هذه الدورة من مهرجان تطوان، إذْ فاز "بركة العروس"، لباسم بريش، بجائزة لجنة التحكيم الخاصة: مأزق أمّ لبنانية، تركها زوجها واختفى منذ سنوات، بعد إنجابها طفلة. لها علاقة حبّ سرّية مع رجل متزوّج، في مجتمع مغلق، يُحاكم النساء. تقرّر فجأة إنهاء العلاقة، التي لا تُشبعها، عاطفياً وجسدياً، بينما تعود ابنتها، من زوجها المختفي، في حالة إحباطٍ واستعداد للإجهاض، للتخلّص من أي ذكرى برجل، أقْصَته هي الأخرى من حياتها. كأنّ الابنة نسخة حديثة من مأساة الأم، وإن امتلكت الشابة خيارات، لم تكن متاحة لوالدتها، منها التخلّص من الجنين. هذا يُفسّر العلاقة المرتبكة والغامضة بين المرأتين.
رغم وصف بريش له، في تقديمه إلى الجمهور المغربي، بأنّه "فيلم صامت بعض الشيء"، فإنّ "بركة العروس" ناطقٌ في مستويات عدّة، في التصوير الساحر للطبيعة، وشريط الصوت بتفاصيله الأخّاذة، من اختيار الأغاني وصوت الطبيعة أو همسها، وتعبيرات الوجوه.
إلى ذلك، لم يحصل "السد"، للبناني علي شيري، على أي جائزة، لكنّه نال تقدير الجمهور وإعجابه، كما النقّاد وصنّاع الأفلام.
من جهتها، غابت السينما المصرية عن المسابقة الرسمية، وحضرت بـ3 أعضاء في لجان تحكيم مختلفة، وفي تكريم الممثلة غادة عادل. الأهمّ أنّها حضرت مع المشروع الوثائقي "ناس الكباين" لهند بكر، ذات الأصل النوبي: أهل النوبة الذين عملوا في قصر الملكين فؤاد الأول وفاروق، في الاسكندرية، وأخرجهم فاروق من القصر، ليسكنوا "كباين" مجاورة. يتناول المشروع كيف صنعوا لأنفسهم مجتمعاً مُغلقاً عليهم. تقول بكر إنّها، حين ذهبت إلى المدرسة، كانت أول مرة تخرج فيها من بين جدران الـ"كباين". تحكي عن أنّ "الأغنية" لعبت دوراً مهمّاً جداً في توثيق جميع مناسباتهم الاجتماعية. للأسف، يجري الآن هدم هذه الـ"كباين"، التي تشكّل جزءاً من ذاكرة مصر، لصالح مشروع استثماري ضخم.
أما السينما الفلسطينية، فحاضرة في أكثر من قسم، كـ"خفقة قلب"، الذي عُرض فيه "حمى البحر المتوسط" لمها الحاج. لكنّ مشروع "عزيزي تاركوفسكي"، لفراس خوري، خرج من "محترف تطوان للمشاريع" من دون جائزة: تجربة المخرج، الذي أمضى 11 عاماً في صنع فيلمه الأول، ويُقيم مقارنة مع الروسي أندره تاركوفسكي، ومحنته في غربته ومنفاه الاضطراري، وعدم قدرته على صنع الأفلام لسنوات. مع ذلك، نال فيلمه "عَلَم" جائزة العمل الأول، رغم الرفض النقدي والجماهيري له، كما بدا في النقاش، إذْ انزعج الجمهور من فكرة حرق العلم الفلسطيني، حتى لو كان ذلك على أيدي المحتلّين. اعتبر البعض أنّ قضية المُراهقين (في الفيلم) غير واضحة، وسلوكهم مرتبك، وشخصياتهم غير مبنية درامياً بشكل متين، والمستوى الاجتماعي الاقتصادي لبعضهم يتناقض مع تصرّفاته.
على صعيد آخر، كانت المحترفات والورش السينمائية أبرز مستجدات "مهرجان تطوان" في هذه الدورة. والأهم أنّها انطلقت قوية جداً، بشهادة مشاركين وصنّاع أفلام. المغربية أسماء المدير، صاحبة المشروع الوثائقي "لا تدع الشمس تشرق عليّ" (جائزة "المركز الفرنسي"، 70 ألف درهم مغربي)، والمصرية هند بكر (منحة الإقامة الفنية في "محترف تورينو السينمائي")، قالتا لـ"العربي الجديد" إنّهما شاركتا في محترفات سينمائية عدّة في دول عربية وخارجها، لكنّ "محترف تطوان" اتّسم بـ"النزاهة" وبـ"موضوعية" لجنة التحكيم، وأنّ مستواه عالٍ. أضافتا أنّ المحترف منحهما فرصة للتدريب والاستعداد النفسي والذهني، لأيامٍ عدّة، قبل المناقشة مع لجنة التحكيم.
حسن لكزولي، المخرج وكاتب السيناريو المغربي، أفاد المشاركين بنصائحه في الاختزال، وضرورة البدء بمقدّمة عن المشروع، وتعريف أبطاله وعلاقتهم بالمكان، وكيفية عرض المشروع والتقاط الأنفاس، والتدريب على الهدوء، قبل الدخول في قضية الفيلم. أكّد مشاركون أنّ نصائح أعضاء اللجنة "مُلخّصة ونزيهة"، أي إنّها "نصائح حقيقية" تهدف إلى تطوير المشروع، وليس لإزاحة مشروع ما، لتعبيد الطريق أمام مشروع آخر.
إلى ذلك، انحازت إدارة "مهرجان تطوان" إلى رأي يؤكّد أنّ "الفروقات بين الوثائقي والتخييلي صارت غائمة، إذْ برزت أعمال يصعب تصنيفها. هناك اقتناع بأنّ كلّ فيلم تخييلي يتضمن نصيباً من التوثيق، وأنّ كلّ عمل وثائقي لا بُدّ أنّ يعتمد على نسبة كبيرة من الخيال. كما أصبح الاهتمام ينصبّ على القيمة الفنية للمُنتَج السينمائي، أكثر من البُعد الوثائقي أو التخييلي فيها". لذلك، أُلغيت مسابقة الوثائقي في هذه الدورة، وجرى الاكتفاء بمسابقة واحدة للأفلام الطويلة.
غاب الفيلم الوثائقي عن هذه المسابقة، وبعض الأفلام الروائية الـ12 استند إلى سيرة ذاتية. عدد المشاريع الروائية المُشاركة في المحترف ضعف عدد المشاريع الوثائقية (8 في مقابل 4). لكنّ المُدهش أنّ للمشاريع الوثائقية حصة الأسد في الجوائز، إذْ فاز مشروعان روائيان بالجائزتين الأولى والثانية، والجوائز الـ3 الأخرى للمشاريع الوثائقية.
كذلك، كشفت الندوات والطاولات المستديرة عن إشكاليات وقضايا سينمائية، أبرزها مسألة الإنتاج المشترك، الذي ينطلق بأفلام العالم الثالث إلى المهرجانات الكبرى، ويساهم في الترويج والتوزيع على أكبر نطاق. لكن مزاياه انحصرت سريعاً، عندما طُرحت مخاطره وشروطه، وأجندة الجهات الداعمة والمشاركة في الإنتاج، التي تلجأ أحياناً إلى الصور النمطية والفولكلور، وتُجهِّل المخرج والسيناريست، وتُبرز نفسها منتجة، كما تفعل منصّات رقمية، كـ"نتفليكس".
ندوة "السينما المغربية: إمكانات ومفارقات" كشفت عن فجوة شاسعة بين النقد والإخراج في المغرب، إذْ لم يهتمّ الحضور بمناقشة الأبحاث الـ3، بقدر انشغاله بإشكاليات راهنة تؤرقه. كلّ طرف ألقى اللائمة على الآخر: مثلاً، الناقد خليل الدامون رأى أنّ على المخرجين تقديم "السينما التي تحترم الإنسان وفكره، ولا تعتبره بليداً وغبياً، فتسخر منه لأجل الترفيه، وتعتمد النهاية السعيدة"، مشيراً إلى اعتقاد المخرجين المغاربة بـ"أنّ النقد السينمائي لا يؤثّر في السينما، لأنّه موجّه من نخبة إلى نخبة"، مُضيفاً "أنّهم يطلبون منّا شرح أفلامهم، ودعمها والدفاع عنها، بينما النقد المغربي لا يستطيع دعم شيءٍ، خاصة إذا كان الفيلم عادياً، فلا نكتب عنه".
المخرج عبد الإله الجوهري ردّ قائلاً: "إذا كان النقّاد يطالبون بأنْ تشارك أفلامنا في المهرجانات الكبرى، فلماذا لا يكتبون نقداً يُنشر في المجلات والدوريات السينمائية الكبرى؟". ثم تدخّل المخرج حسن بنجلون، مؤكّداً وجود فجوة بين الأطراف الثلاثة، الجمهور والنقّاد وصنّاع الأفلام، وهذه معادلة يصعب حلّها.