"كانت تمتلك قدرة هائلة على معرفة الناس وفهمهم، وعلى الدخول إلى عقل المخرج الذي يطلبها للعمل معه. كانت كطبيب نفسي للمخرج. تنصت إليه، كأنّها تدخل عقله، تُدرك ما يدور في ذهنه وتكتبه. كانت تكتشف بسرعة ما يريده فيسكونتي أو بلاسيتي أو زامبا".
هذا كتبه مازولينو داميكو، وأكّدته شقيقته كاترينا، ابنة سوزو تشكَّي داميكو (Suso Cecchi d'Amico)، أشهر كاتبة سيناريو في تاريخ السينما الإيطالية، في ندوة الاحتفاء بها، ومناقشة كتابها عنها، بمناسبة تكريمها في برنامج "شقيقات السينما"، في الدورة الـ37 (24 يونيو/حزيران ـ 2 يوليو/تموز 2023) لـ"مهرجان السينما ريتروفاتو" (Il Cinema Ritrovato)، الخاص بترميم الأفلام وإعادة اكتشافها، بحضور كاترينا وشقيقتها المنتجة سيلفيا، وجيان لوكا فارينيلي، مدير "السينماتيك البولونية" (مُنظّمة المهرجان)، الذي قدّمها أيضاً. و"السينماتيك" مؤسّسة تُرمّم الأفلام أيضاً، بالتعاون مع مؤسّسات أخرى، منها "أرشيفات الفيلم" في العالم، و"مؤسّسة مارتن سكورسيزي". وسكورسيزي زار السينماتيك قبل انعقاد الدورة هذه بأيامٍ قليلة.
لم تتحدّث سيلفيا إلا قليلاً، لكنّ حضورها قوّي، عبر آراء سريعة، مؤثّرة وكاشفة، تؤكّد أنّ سرد حكاية العائلة، بآلامها وأفراحها، وُلدت منذ لحظة اكتشاف الرسائل التي كانت تكتبها الأم للأب فيديل داميكو (1912 ـ 1990) في فترة علاجه من السلّ، في مصحِّ سويسري، بعد عودته من الحرب العالمية الثانية. تكشف الرسائل -التي عثرت عليها كاترينا بعد رحيل الأم، فنسختها رقمياً، وأعطت نسخاً منها لأشقائها- غموضاً كثيراً في علاقة الزوجين أحدهما بالآخر، اللذين رفضا فكرة الانفصال بسبب المرض، حفاظاً على العائلة، رغم أنّ كلّاً منهما ينتمي إلى عالم مختلف عن الآخر. كما تُعدّ دليلاً على صلابة سوزو، بكتابتها رسائل يومية بين ديسمبر/كانون الأول 1945 ومارس/آذار 1947؛ وتشهد على الحيوية القصوى للعلاقة بينهما، فعندما وجدت الشابة سوزو نفسها وحيدة في روما، ومسؤولة عن طفلين، سيلفيا ومازولينو، لم تستسلم، وعثرت سريعاً على وظيفة مترجمة وكاتبة سيناريو، وصارت مطلوبة. الهمّ الرئيسي الذي يُشغل سوزو طمأنة زوجها، والحفاظ على معنوياته عالية، وإشراكه في الحياة العائلية. لذلك، أصرّت على مواصلة الكتابة إليه يومياً.
مع ذلك، تؤكّد سيلفيا أنها لم تكن تشبه أمها في شيء. فأمها عملية جداً وصلبة، بينما هي أقرب إلى والدها، التي وصفته بالعبقري، وأنّها مثله لديها هذا "الشغف والعاطفة القوية التي تجعلني أبكي بسهولة"، وأنّها لم تكن أبداً في المقدمة أو من الأوائل، لكنْ لها موهبة استثنائية في دعم الناس ومساندتهم، مُشيرة باستنكار إلى "الآثار النفسية عليّ كطفلة"، عندما كان يُلمّح مخرجون إلى أنّها أقلّ مستوى بمقارنتها بأخيها الذي صار كاتباً ومترجماً.
أما كاترينا، مؤلّفة الكتاب، فتحدّثت طويلاً عن ظروف نشأة أبويها، القادِمَين من عالمين مختلفين، فسوزو تشكَّي (1914 ـ 2010) ابنة عائلة فقيرة، مثقّفة تهتمّ بالفنون، فتاة مستقلّة جداً، درست العزف على البيانو، والتقت من أصبح شريكها في روما، عندما كانت تدرس الموسيقى، فأُغرم أحدهما بالآخر، قبل أنْ يتزوّجا. كما أنّها درست اللغة الفرنسية، لكنّها توقفت عنها سريعاً، وكرّست حياتها للعائلة، وعثرت على عمل في الترجمة، فكانت تفضّل أنْ تعمل في البيت كثيراً، قبل بدء كتابة السيناريو، مُقدّمة نحو 120 سيناريو فيلم منذ بداية الواقعية الجديدة، كـ"سارقو الدرّاجات" (1948) لفيتّوريو دي سيكا و"النمر" (1963) للوكينو فيسكونتي. أما فيديل، فابن عائلة بورجوازية، وهو أيضاً عاشق فنون وعزف، وكان "موسيقاراً عبقرياً" كما تصفه ابنته، تعلّم لغات عدّة، وصار مترجماً وناقداً أدبياً. كان، بعقله المنفتح، يرغب في لعب دور في المجال الأكاديمي.
تبدو شخصية سوزو تشكَّي داميكو، بحكايتها مع عائلتها، درامية بامتياز، وإنْ كانت تنحو إلى التراجيديا قليلاً. مسيرتها الإبداعية ككاتبة سيناريو ظهرت في ذروة عصر الواقعية الجديدة، وعاشت كل مراحل السينما في إيطاليا، وساهمت في أنواع مختلفة: الكوميديا الإيطالية، واقتباس أعمال أدبية، وشاركت في تأليف سينما تنتمي إلى الطابعين السياسي والاجتماعي، هذه المسيرة تطرح سؤالاً مُربِكاً عن هوية كاتب السيناريو، ومدى تأثيره ومساهمته في بناء فيلم.
فالابن مازولينو يؤكّد أنّ الفيلم يخصّ المخرج، لأنّ وظيفة السيناريست تخضع للمخرج: "عندما طُلب منّي أنْ أساهم في تعريف هوية والدتي ككاتبة سيناريو ومؤلّفة، كان أول ردّ فعل لي: "مستحيل". ففي إيطاليا، كانت الأفلام، خاصة الجادة، تُعتَبر دائماً عمل المخرج أولاً، عكس الحاصل في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة". أضاف أنّ السيناريوهات المنشورة تكون "النسخة النهائية للفيلم، الذي ربما يختلف عن النصّ الأصلي، إذْ تحصل تغييرات مهمة"، وأيضاً "لأنّ جميع الكتّاب وكتّاب السيناريو، وإنْ كانوا غير راضين عن ذلك أحياناً، يُكرّسون موهبتهم لخدمة الفيلم، باختراع قصص، وإعادة الحياة إلى شخصيات يدخلون في أذهانها؛ بينما يصوغ المخرجون هذه الموهبة لخدمة غاياتهم الخاصة".
لم يقتصر الاحتفاء على الشقيقتين فقط، إذْ كرّم المهرجان نساء أخريات في برنامج "شقيقات السينما"، يعملن في مجالات سينمائية مختلفة، إخراجاً وتصويراً وكتابة سيناريو ومونتاجاً وتمثيلاً ورسماً، وذلك بهدف إخراج بعض هؤلاء المبدعات من الإهمال والنسيان، بتسليط الضوء على وجودهنّ المهنيّ، ولإثبات أنّ صانعات الأفلام يقمن بتفكيك عمل نظرائهنّ الذكور.
أحد أفلام هذا البرنامج وثائقيّ مُرمَّم حديثاً للمخرجة لي غرانت، أنتج عام 1986 بعنوان Down And Out In America، الفائز بـ"أوسكار" أفضل فيلم وثائقي في النسخة الـ59، ويُعدّ دراسة حيوية ومُعاصرة للتأثير المدمِّر الناجم عن سياسات حقبة رونالد ريغان على الأشخاص المهمّشين، وأثر الركود في منتصف ثمانينيات القرن الـ20 على عمّال المزارع في مينيسوتا، والعاطلين عن العمل في المناطق الحضرية، والمشرّدين الجدد في لوس أنجيليس ونيويورك. مُشارك فيه يصف الموقف هكذا: "إنّها حرب للدفاع عن معيشتنا. صحيح أنْ ليس هناك دماء إلى الآن، لكنّي أخشى أنّه سيكون. لا بُدّ أنّ تكون هناك دماء". لا يزال الفيلم يُعبّر عن مأزق وقضية ملتهبة شديدة المعاصرة، ويدلّ على التزام سياسي شرس ووثيق الصلة بهذا اليوم.
الالتزام نفسه موجود في الحياة المهنية للمخرجة اللبنانية جوسلين صعب (1948 ـ 2019) التي صوّرت لحظاتٍ تاريخية كثيرة، من ثورات وحروب وفظائع، في الشرق الأوسط في القرن الـ20. أفلامها جريئة وصاخبة، عُرض منها قصيرٌ بعنوان "نساء فلسطينيات" (1974)، قبل عرض الروائي الطويل "ليلى والذئب" (1984) لهَايني سرور. تجاوب الجمهور الإيطالي مع فيلمي المخرجتين اللبنانيتين، إذْ قالت الإيطالية الثمانينية أنجيلا توماسييني، المُصوّرة التلفزيونية، إنّهما "يُذكّرانني بحالنا، وبمرحلة مهمة وخطرة في تاريخنا وصراعنا مع المجتمع البطريركي في فترة الاستعمار".