لا حاجة إلى التعريف بلوحة موناليزا. ربما هي أشهر بورتريه في التاريخ. اللوحة الموجودة حالياً في متحف اللوفر الباريسي، وراء زجاج مصفّح، تعود إلى الأخبار كل عام في ذكرى رحيل ليوناردو دافنشي، إذ يبدأ التوتر الدبلوماسي بين فرنسا وإيطاليا. الأخيرة تقول إن دافنشي إيطالي، ويجب أن تكون اللوحة في إيطاليا، في حين أن فرنسا ترد بأن دافنشي جزء من التاريخ الفرنسي والبلد الذي آواه، واللوحة جزء من تراث فرنسا الوطنيّ.
كذلك، هناك تاريخ للوحة بالمعنى المادي، أي تنقلها من مكان إلى آخر قبل أن تستقر في اللوفر، بأمر من ملك الشمس، الملك الفرنسي لويس الـ 14 في القرن السادس عشر. اللافت في هذا التاريخ هو محاولات تخريبها وسرقتها التي تبدو ردّ فعل على ما نالته من احتفاء، فهي "عمل فنيّ" فُرض علينا فرضاً، رغم من تواضعه، أي أنها بورتريه في النهاية صوّر دافنشي فيه ليزا ديل جوكوندو، كي تعلقها في منزلها. لا تناقش اللوحة موضوعا فلسفياً، ولا تمثل حدثاً تاريخياً أو أسطورياً، هي مجرد بورتريه لم يكمله دافنشي. صحيح أن هناك عديداً من النظريات حول حقيقة الرجل/المرأة الموجود(ة) في الصورة. لكنها، في النهاية، صورة شخصية أنجزت على مدى سنوات، ما من سرّ ورائها، ولا ألغاز.
تاريخ تخريب موناليزا أشبه بتاريخ للسخرية والتخلص من فن المعلمين. في ذات الوقت، هو تاريخ التبذير في الفن، وتركيز نظرة المجتمع وأمواله واهتمامه على لوحة. هذا بالضبط ما دفع أحد زوار متحف اللوفر، أخيراً، إلى محاول تحطيم الزجاج الذي يحمي اللوحة منذ عام 2005. وحين عجز عن كسره، دهنه بالكريم، صارخاً بالمشاهدين الذين يحملون هواتفهم النقالة لالتقاط "سيلفي" أن على الفنانين الاهتمام بالكوكب وإنقاذ البيئة، عوضاً عن التبذير في عالم الفن، والاحتفاء بالبورتريه ذات النظرة المحيّرة والسخيفة في بعض الأحيان.
تنكّر الرجل بزي امرأة عجوز، وادّعى أنه مقعد، واستخدم كرسياً ذا عجلات كي يخفي أدواته. وفي اللحظة المناسبة، نهض عن كرسيه ولطخ اللوحة أمام العشرات. لكن أكثر ما هو مفارق وساخر، أن الشخص حين اعتقل، حُوّل أولاً إلى العيادة النفسية في باريس التابعة لمركز الشرطة، وكأنه لا يمكن لأحد سليم العقل أن يفعل ما فعله.
تاريخ تخريب موناليزا يشفي الغليل، خصوصاً أنها مخيبة للأمل حين نشاهدها بصورة شخصيّة، بل نستغرب من كل النظريات والتحليلات حولها. كل هذا لأجل بورتريه؟ والأهم، لمَ هي الأغلى في العالم؟ هذه الهالة والاحتفاء جعلت اللوحة هدفاً لانتقادات الفنانين؛ إذ استخدم مارسيل دوشامب نسخة عنها كغطاء لطاولة الكيّ، في محاولة إلى تحويلها إلى غرض يومي، كما أنتج نسخة عنها ووضع لها شارباً ولحية في سخرية منها (هذه النسخة موجودة حالياً في مركز بومبيدو في باريس). لكن أبرز العداوات معها هي اتهام الشاعر غيوم أبولينير بسرقتها عام 1911، أو التواطؤ من أجل التخلص منها وفتح الباب أمام الفن المستقبلي، إذ اعتقل لأسبوع حينها ثم أثبتت براءته. إثر ذلك، لم تتجرأ الشرطة على التحقيق مع المشتبه به الثاني: بابلو بيكاسو. بالطبع، ألقي القبض لاحقاً على اللص الذي سرق اللوحة، ليس لأجل المال، بل من أجل إعادتها إلى إيطاليا، ظنّاً منه أن نابليون هو من أحضرها إلى فرنسا.
عام 2009، رمى سائح روسي كأس شاي على اللوحة، لكن الكأس تحطم على الزجاج. وعام 1956، رمى سائح حجراً على اللوحة، وأصابها، ما أدى إلى تضرر مرفقها الأيسر. كل هذه الاعتداءات كانت محاولات للتخفّف من الجدية والهالة المحيطة باللوحة.
هذه الآراء التخريبية التي استهدفت موناليزا، تمثّل محاولات لمهاجمة المؤسسة المتحفية، ونظام تاريخ الفن، المسؤول عن تقرير ما هو الفن الراقي وما هو المنحط؛ فكيفية عرضها وحمايتها، والحكايات والدراسات حولها، هي المثال الأوضح والصارخ على قدرة المؤسسة الفنيّة على التحكم بأذواقنا، ووضع قواعد لما هو جميل وقيّم، أمام ما هو بخس ومبتذل، وذلك عبر الأبحاث والمعارض المتكررة، ونظريات المؤامرة التي حولت لا جوكوند إلى بورتريه يمثّل سطوة المتحف.