لم يمهل القدر الروائي الفلسطيني، جبرا إبراهيم جبرا، للعودة المتوافق عليها إلى فلسطين، إثر توقيع اتفاقيات أوسلو ما بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، إذ رحل عام 1994، بعد أن أُضيف اسمه على قوائم المرشحين للعودة.
كان ذلك شيئاً مما كشفت عنه مونودراما "جبرا" للفنان الفلسطيني خالد المصو، واحتضن عرضها، أخيراً، مسرح مؤسسة عبد المحسن القطان في مدينة رام الله، بوحي من رواية جبرا السيريّة، "البئر الأولى"، وتناولت ما ذكره عن فترة وجوده في فلسطين قبل النكبة.
ويظهر أن جبرا كان متوجسّاً في حواره مع المختصة بهذا الشأن من الجانب الفلسطيني، بخصوص اشتراطات معينة لمن يرغبون بالعودة إلى فلسطين، من قبل الجانب الإسرائيلي، لكن الفلسطينية أقنعته بأن لا أحد يمكن أن يرفض عودة جبرا إبراهيم جبرا، أو يفرض عليها شروطاً، واتفقا أن يكون اللقاء في بيت لحم يوم السادس من يونيو/حزيران 1996، أي بعد قرابة عام ونصف عام على رحيله.
وتميّز المصو، الذي أعدّ دراماتورجيا العرض (من إنتاج مسرح عناد وإخراج إميل سابا)، بتجسيد شخصيّات في محيط الروائي الفلسطيني الذي عاش منذ ما بعد النكبة في العراق، وكان من العلامات الثقافية البارزة فيه. من بين تلك الشخصيات: والدته، ووالده، وجدّته، وأستاذه في المدرسة، وقد جسّدها من دون مبالغة أو إقحام، لم تخلُ من بعض الكوميديا على الهامش، مقدماً إطلالة مجتمعية وتاريخية وثقافية على تلك الحقبة الزمنية في فلسطين، أي فترة الاستعمار البريطاني، وتحديداً في الفترة التي كان فيها جبرا ما بين سن الخامسة والتاسعة، أي ما بين عامي 1925 و1929، باعتبار جبرا من مواليد أغسطس/آب عام 1920، وفي روايات أخرى عام 1919.
كما قدّم العمل جبرا في مراحل عمرية مختلفة، مُركزا على طفولته التي قضاها في فلسطين، وتحديداً في مسقط رأسه في بيت لحم، وحكاياته المتشعبة فيها، خاصة يوميّات الفقر المدقع الذي عاشته أسرته كما هو. انعكس ذلك بشكل لافت في مشهد بيع حذائه الجديد الذي كان هدية له، وذلك لسد متطلبات أساسية للعائلة، التي انتقلت للعيش في القدس، لمنحه فرصة إكمال دراسته.
"تنقلنا في بيوت كثيرة، من الحوش، للخشاشي، لحوش دبدوب، لدار فتحو، ودار جحلوقة، وبالآخر صفيّنا بجورة العنّاب بالقدس... كان أبوي يصحيني ع أجراس كنيسة تراسنطة عشان أراجع دروسي قبل ما أروح ع المدرسة.. أبوي ما كانش يملك إشي بالدنيا غير الأواعي اللي عليه، وصّاني وقلّي: اسمع يا ابني، اسمع الكلمة واحفظها وانطقها جيّداً، فالكلمة من عند الله، والله هو الكلمة.. أبوي ما استوعبش إنه مدير المدرسة طردني منها، حمل حاله ونزل ع دير مار مرقس بالقدس عند أبونا بطرس، عشان ياخدوا ويروح عند المدير يتوسطلنا ناخذ الشهادة".
وعلى الرغم من بساطة الديكور، فإنه كان مدروساً، فكل قطعة منه استخدمت في مكانها، وضمن إطار تجسيده لهذه الشخصية أو تلك، إذ سكن أكثر من شخصية وسكنته، كما سكن أكثر من جبرا في حالات نفسية ومواقف متعددة ومتباينة، وإن كان في غالبيّتها طفلاً يلازمه الفقر كصديق سوء، كان والده يريده أن يتعلم لعله يتخلص منه ذات يوم.
وأشار خالد المصو لـ"العربي الجديد" إلى أنه ما قبل إعداد النص المسرحي لمونودراما "جبرا"، قرأ سيرته في فلسطين كما وردت في روايته "البئر الأولى"، التي كثفها على شكل حكايات جسّدت على خشية المسرح، ومن ثم قام وفريق العمل بالتجوال ما بين الأماكن الأولى التي عاش فيها أو زارها، من منازل، وأحواش، ومدارس، وكنائس، كما قابلوا العديد من كبار السن، وخاصة السيدات، ومن ثم بدأت تتشكل من كل ذلك صور اتخذت شكل لوحات تمثيلية مع وعي مسبق بالحفاظ على لغة جبرا كما وردت في أدبه، وتطلب ذلك مجهوداً كبيراً على أكثر من اتجاه، لافتاً إلى أنه قرّر تسليط الضوء على شخصية جبرا، لكونها لم تحظ بما يليق بها من الاهتمام، خاصة في المرحلة التي عاش فيها في فلسطين.