تأتي الذكرى الأولى لرحيل الفنانة والمُغنّية السوريّة ميّادة بسيليس (1967 ــ 2021)، ابنة مدينة حلب، لتعيدنا من جديد إلى سيرتها الفنية الغنية. صاحبة الصوت الأكثر رقّة ونضجاً في العشرين سنة الأخيرة في سورية، نقلت التراث السوري إلى مسارح عربيّة وعالمية، ما بوّأها مكانة معتبرة في وجدان المُستمع الأجنبي، وحصدت من خلال تجربتها جوائز عدة.
هذا ولم تكُن الفتاة السوريّة البالغة من العمر 9 سنوات تُفكّر في أن تظلّ حبيسة ثقافتها الفنّية وذاكرتها الموسيقيّة، إذ شكّلت "إذاعة حلب" مختبراً غنائياً بالنسبة إليها، حتّى تُكرّس صوتها واسمها مع كبار المغنّيات في ذلك الوقت. لم تكُن تلوح في أفق الغناء في العالم العربيّ أيّ نوازع تنميطيّة تحصر الأغنية في الحفلات الرسميّة، بل كان همّها حفر مجراها عميقاً في الاجتماع العربيّ وما كان يعيشه من تحوّلات جوهرية إبان سبعينيّات القرن العشرين وثمانينيّاته.
وعلى الرغم من بساطة الأغنية وتواضع الآلات الموسيقيّة، مقارنة بما كان يحدث في مناطق أخرى من العالم، استطاعت بسيليس مع رفيق دربها الموسيقيّ سمير كويفاتي خلق مشروع غنائي مُذهلٍ ومُغاير لما كان موجوداً آنذاك في الجغرافية السوريّة.
لذلك، كانت أعمالهما بمثابة حداثة فنّية تخترق ذاكرة الأغنية السوريّة وتعمل جاهدة على الزجّ بها في أحضان التحديث والحداثة من خلال المدرسة الرحبانية. وقد يبدو للمُستمع أنّ ذلك ليس بجديدٍ، فثمّة تجارب غنائية عربيّة أخرى سلكت المسار نفسه على مُستوى الخطّ الغنائي، في سبيل اجتراح أغنية تستجيب إلى تطلّعات المُستمع وطبقاته الاجتماعية وظلال التيار الرومانسيّ الذي اجتاح الأغنية العربيّة في ذلك الوقت. إلّا أنّ المُدقّق والمُتتبّع لمسار أعمال بسيليس سيكتشف أنّ الخطّ الرحباني مجرّد قالبٍ موسيقيّ ونسقٍ غنائي وتوجّه التزامي. أمّا السحر، فينبع بدرجةٍ أولى من صوتها الطفولي الأوبرالي الذي شبّت عليه داخل الكنيسة منذ صغرها.
ألبومها الأوّل "يا قاتلي بالهجر"(1986) جاء ليستعيد جوهر الأغنية السوريّة في كامل جمالها ونضارتها. فقد عملت في أغانيها على استلهام التراث الحلبي، لكنْ من خلال الخطّ الموسيقيّ الرحباني، وذلك بتأثير من زوجها سمير كويفاتي على يوميّات ومَشاغل مشروعها الغنائي ومساراته الجماليّة. ولم يكُن ذلك غريباً بالنسبة إلى السياق التاريخي الذي عاشت فيه ميّادة بسيليس، في وقتٍ كانت الأغنية الرحبانية تقتحم بجدارة مُخيّلة الإنسان العربيّ وتنقله إلى عوالم رومانسية تربطه بالحبيب والأرض والوطن والالتزام والعروبة. وهي ثيماتٌ فنّية تتكرّر في تجربة بسيليس الغنائية، إذْ تحضر عوالم الرومانسية بنفَس موسيقيّ يقترب من المعاصرة، إذ يحضر في فيديو كليباتها وقع البيانو والنّمط النوستالجي من الصورة الفنّية، كما في أغنية "كذبك حلو".
لكنّ عامل التجديد والتأثير ظلا يرتبطان فقط بالآلة الموسيقيّة وثيمات الأغنية المألوفة في التجربة الرحبانية. أمّا على مُستوى خامات الصوت وأداء الأغنية، فإنّ تراتيل الكنيسة والتراث الحلبي يظلان من الأعمدة الصلبة والتيجان القويّة التي غذّت صوت بسيليس وشيّدت عليهما خامات صوتها ونثرت عبرهما أثير سحرها الأخاذ. لكنّ رغم ذلك، فإنّ الموهبة حاضرة بقوّة، وما التراتيل الدينيّة والموروث الشعبي السوري والمدرسة الرحبانية، إلا مجرّد عوامل برانية مُؤثّرة في خصوصيات مسارها الفنّي، أمام حنجرة ذهبية رسمت معالم الأغنية السوريّة الجديدة ابتداءً من ثمانينيات القرن المنصرم.
تميّزت بسيليس بالتواضع تجاه جمهورها العربيّ، لأنّ أغانيها ظلّت نابعة من جسدها وتاريخها وذاكرتها الحلبية. إذ يشعر المُستمع وكأنّها تُغنّي بلسانٍ حالم بطريقة تسحرنا وتجعلنا نظن أنّها تستكنه في جسدها سيرة الفرد السوري وعوالم حلب المُدهشة وجماليّات الأمكنة وكل الأشياء اللامرئية المُرتبطة بذاكرة المدينة ومَشاعرها. هكذا تخرج الأغنية بسيطة وسلسة بنفَسٍ تلقائي سوري، يخترق جغرافيات الأغنية في العالم العربيّ ومناخاتها، من دون أنْ تُفكّر يوماً في الأغنية التجارية وما أصبحت تُراكمه من خيباتٍ على كاهل تاريخ الأغنية العربيّة منذ فترة التسعينيّات.
وليس غريباً أنْ تغدو بعض نماذج الأغنية الترفيهية، تُشكّل اليوم علامة فنّية وذوقاً جمالياً في العالم ككلّ، والمحطّات التلفزيونية والمهرجانات الموسيقيّة وشركات الإنتاج تدفع بها صوب المقدّمة، مُمارسة مختلف أشكال النفي والإقصاء على عشرات المُغنّين والمُغنّيات العرب. لأنّ بثّ أغانيهم وعرض فيديو كليباتهم بين حينٍ وآخر غير كافيين، بل من الضروري استضافتهم ودعم المونوغرافيات الفنّية ومؤلَّفات السير الذاتية التي تُنجز عنهم في سبيل الاعتراف والتثمين وضمان استمرار وجودهم وذاكرتهم الغنائية في نفوس الأجيال المقبلة وعقلياتها.
ليس بغريبٍ هذه الأيام أنْ تُنسى أغاني ميّادة بسيليس الفنّانة التي تجرأت على الخطّ الرحباني وبرعت في تثمينه داخل الجغرافية السورية، والعالم العربيّ مُنكبّ على سماع أغنيةٍ غربيّة مُرتبكةٍ، هي عبارة عن قوالب موسيقيّة إلكترونية جاهزة تخترق وعيه الفنّي، مُحاولة فرض الإيقاع السريع كعلامة فنّية وهويّة موسيقيّة على حداثة الأغنية المعاصرة.