أسوأ أنواع المُشاهدات السينمائية، تلك المُقدَّمة في الطائرات. التنوّعُ كبيرٌ في وسائل المُشاهدة الحديثة، إنْ بفضل التقنيات العصرية، المتمكّنة من تحويل غرفةٍ في منزل إلى صالة سينمائية صغيرة، أو بفضل الانتشار الواسع للمنصّات المختلفة. التنوّع نفسه يحثّ على سؤال المُشاهدة في الطائرة، وهذا تقليد باقٍ، فالرحلات الطويلة ـ والأخرى القصيرة أيضاً، تلك التي تتجاوز 3 ساعات على الأقلّ ـ بين بلدان جمّة، تتطلّب ترفيهاً كهذا، يتمثّل بعضه أيضاً في قنوات للموسيقى، بأنواع وأساليب عدّة. هناك أيضاً شريط أخبار آنيّة، وهذا حكرٌ على مهتمّين بأحوال العالم، رغم أنّهم "فوق" العالم، في لحظات كهذه، أو ربما لأنّهم "فوق" العالم الآن، فأحواله تعنيهم أينما كانوا، في مقابل آخرين يرون في السفر وقتاً لراحة مطلقة، فينامون كثيراً، كأنّهم يريدون عزلةً تامة عن العالم وأحواله، وعن ناس العالم وارتباكاتهم واضطراباتهم وقلقهم.
المُشاهدة المذكورة تُلغي نسبةً هائلة من جودة الفيلم وتقنياته وفنيّاته، بصرياً وسمعياً، ما يؤدّي إلى شطب قِيَمٍ عدّة في الموضوع والمعالجة وجماليات صُنع الفيلم. لكنْ، أيحتاج مسافرٌ إلى الجوانب الفنية والجمالية والدرامية، لتمضية وقتٍ بين بلدٍ وآخر؟ إن يُمنح شاشة كبيرة، وتقنيات صوت وصورة عصرية، في الطائرة نفسها (هذا حاصلٌ أو سيحصل، أقلّه في طائرات أكثر تطوّراً)، هل سينتبه إلى تلك الجوانب، أم سيظلّ مكتفياً بالترفيه والتسلية، وإنْ ينتمي بعض الأفلام المُقدَّمة إلى الخيال العلمي أو الرعب أو القصص المُصوّرة والبطولات الخارقة؟
مُشاهدةٌ كهذه غير أساسية، والتسلية التي تُقدّمها عابرة، والوقت يمضي، كما المَشَاهد، رغم أنّ الوقت يمضي مع تفكير وانتظارٍ وقلق ربما، بينما المَشَاهد تمرّ سريعاً وتنتهي، ولعلّ الوقت، حينها، يمرّ سريعاً وينتهي. كأنّ هذا يُصبح أحد أهداف عرض أفلامٍ على شاشة الطائرة: إيهام المسافر بأنّ الوقت سيمرّ سريعاً وينتهي، وبأنّ الطائرة ستبلغ المدينة المنتظرة قريباً، وبأنّ المسافات الطويلة تختزلها لقطات أفلامٍ، يختار المُسافر منها ما يشعر بأنّها مناسبة لتسليته وترفيهه، في ساعاتٍ عدّة.
ساعات كتلك تدفع مُسافراً، يحبّ السينما وأفلامها، إلى اختبار مسألة مُشاهدة أكثر من فيلمٍ واحدٍ في وقتٍ محدّد. المسافات الطويلة تمنحه إمكانية اختبار كهذا، إذ يُمكنه مُشاهدة 3 أفلام على الأقلّ، وهذا بحدّ ذاته اختبارٌ له إزاء "حقيقة" علاقته بالمُشاهدة، المنبثقة من حبّه للسينما وأفلامها. رغم أنّ الشاشة في الطائرة صغيرة جداً، ورغم أنّها تحول دون مُشاهدة سليمة، ودون تمكّن المسافر ـ المُشاهد من التمتّع بها وبما في الأفلام من مسائل وتقنيات وشخصيات ونبراتٍ وعلاقات، يضع اختبارُ مُشاهدة أكثر من فيلمٍ واحدٍ، في وقتٍ محدّد، المسافرَ ـ المُشاهد، الذي يحبّ السينما وأفلامها، أمام سؤال علاقته بالسينما وأفلامها، وبالمشاهدة في "مكان واحد وزمن واحد".
هذا يحصل في منزلٍ عادي، يُحوِّل ساكنه إحدى غرفه إلى صالة صغيرة. هنا أيضاً، يختبر المُشاهد قدرته على مُشاهدة أكثر من فيلمٍ واحد، في "مكان واحد وزمن واحد". لا علاقة للـ"سينيفيليّ" بهذا الاختبار. هناك من يحبّ السينما وأفلامها من دون أن يكون "سينيفيلياً"، يلتزم السينما وأفلامها كنمط حياة وعيش وثقافة وسلوك وتأمّلات وتفكير وملذّات. هناك من يجعل غرفةً منزلية صالةً صغيرة، من دون أنْ يصبو إلى أكثر من مُشاهدةٍ، تمنحه تسلية وترفيهاً، يومياً ربما، أو أكثر من مرة أسبوعياً. هناك من يجهد في تحسين تلك الغرفة بتقنياتها كافة، كي يتمتّع بمُشاهدة فيلمية، أو كي يمارس ألعاب فيديو.
من يُشاهد فيلماً أو أكثر، في طائرة أو في غرفة منزل تُشبه صالة صغيرة، لن يكون "سينيفيلياً" بالضرورة. لذا، يريد مُشاهدة بأي ثمنٍ، فالصُور أمامه تمنحه بعض سكينة وهدوء، وتُخفِّف من ثقل الوقت، ولو قليلاً، وتجعله في مكانٍ آخر غير الطائرة التي في السماء، والغيوم حولها أو تحتها. اختبار مُشاهدة أكثر من فيلمٍ لن يُغريه ربما، ولن يكترث به ربما، وإنْ يفعل هذا، فالمُشاهدة بالنسبة إليه تهدف إلى "تسريع" الوقت لبلوغ المدينة المنتظرة في أقرب وقت، و"يا ليتنا نصل قبل الوقت المذكور على بطاقة السفر"، فهذا أفضل.
هذا جزء من السينما وسحرها. قدرتها على تأجيج مشاعر وانفعالات (كقدرتها على تحريض المُشاهد على تفكير وتأمّل أيضاً) يُفيد مُسافراً ـ مُشاهداً في ساعات بقائه في فضاء مفتوح على احتمالات ومخاوف، أو على متعٍ وراحة، فمسافرون كثيرون غير قلقين وغير خائفين وغير متوتّرين من سفرٍ طويل أو قصير، فالسفر لهم متعة بحدّ ذاتها. هؤلاء، أو بعضهم على الأقلّ (منهم من يكتفي بالقراءة مثلاً)، ربما لن يهتمّوا بشاشة صغيرة جداً، ليُشاهدوا عليها، مع تعبٍ في العينين والأذنين، أفلاماً مختلفة، لعلّها لن تُضيف شيئاً إلى متعة السفر التي يشعرون بها أصلاً.