كان وضّاح البلبل، أحد أصحاب المحال التجارية وسط البلدة القديمة في مدينة نابلس، يلبس طربوشاً أحمر، ويحمل مبخرة كبيرة، مردداً من أمام متجره العتيق: "صلّوا على سِيدنا النبي"، وهو يوزع مع جيرانه من التجّار الحلوى على المارّة، في طقس ورثه عن والده وجدّه، فيما يؤكد سعد الصفدي أن جميع سكّان الشارع وتجاره يحيون المولد النبوي الشريف سويّاً ليؤكدوا للعالم محبة النبي عند أهل مدينة نابلس.
وقبيل الساعة العاشرة من صباح الأربعاء، بدأت احتفالات أهالي مدينة نابلس بذكرى المولد النبوي، التي تتواصل على مدار يومين في كل ركن بالمدينة التي زيّنت بالألوان وبالبخور منذ أكثر من أسبوع، وانتشرت فيها الحلوى في كل مكان، بما في ذلك الكنافة و"القلاز"، فيما يردّد الناس من كافة الأجيال أغنيات في مدح النبي محمد.
وكانت الانطلاقة مع "عدّة الشيخ نظمي"، وهي عادة درجت منذ سنوات، وصارت جزءاً من احتفالات المدينة التي تعود إلى قرون ماضية، بحسب المؤرخين.
ولطالما ارتبطت عبارات من قبيل "الله حي" و"صلّ ع الرسول" بـ"عدّة الشيخ نظمي" المُلقّب بـ"التدماني"، وهي فرقة مكونة من اثني عشر شخصاً، استطاعت أن تكون على رأس الاحتفالات الدينية في البلدة القديمة، وأن تترك أثر تفاعلها في قلوب أهل نابلس وزوّارها.
تقع زاوية الشيخ نظمي الصوفية في حارة النوباني في البلدة القديمة في مدينة نابلس، وتعرف عند خروجها بـ"عدّة الشيخ نظمي"، إذ يبدأ أتباعها بتجهيز أنفسهم لإحياء أي مناسبة دينية، بما فيها المولد النبوي، منذ ساعات الصباح الباكر. فيما يجتمع بعض أهالي المدينة ليقدموا لهم الحلويات والسكاكر لتوزيعها أثناء تجوالهم على المارة أو على زوّار زاويتهم.
و"عدّة الشيخ نظمي" هي من الفرق الصوفية التي ظهرت منذ زمن، ويستخدم أعضاؤها الدفوف والطبول بإيقاعات يصاحبها ذكر الله والصلاة على نبيّه.
ويقع مقرها في جامع مملوكي هدم ولم يبق منه سوى النقش الكتابي الحجري، ومن ثم أعيد بناؤه كزاوية في عام 1704، وأقام فيها مطلع الألفية الثالثة الشيخ نظمي عوكل ورفاقه من أتباع الطريقة الرفاعية الصوفية، وهي معمارياً عبارة عن قبو عميق يؤدي له مدخل صغير، ويغطيه سقف على شكل نصف برميل.
ولفت الشيخ نظمي عوكل، الذي تحمل الزواية اسمه، إلى أن "العدّة" تمثل عادة لأهل نابلس تعود لفترة زمنية طويلة، مع أن عمر فرقته الحالية لا يتجاوز عدّة عقود.
وأشار إلى أنّهم اعتادوا في البدايات على إحياء المناسبات الدينية كالمولد النبوي والإسراء والمعراج وغيرها داخل أروقة الزاوية التي اعتادوا الجلوس فيها، ومع مرور الوقت وجد أعضاء الفرقة أن إحياء المناسبات الدينية يحظى بشعبية كبيرة لدى شريحة واسعة من أهالي المدينة، إذ لاقى أسلوب المدائح النبوية التي يقدمونها إعجابهم ومتابعتهم.
وأدى ذلك إلى خروجهم إلى شوارع المدينة في أي فعالية دينية، بل باتت الفرقة هي من تبادر بتنظيم الاحتفالات بالمولد النبوي وغيرها من المناسبات، لتجد المئات من المواطنين الذين يسيرون معها في شوارع وأزقة البلدة القديمة.
وأشار إمام جامع الحنبلي، الشيخ عمر صنوبر، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن "العدّة" تعود إلى عهود الفتوحات الإسلامية، وتحديداً زمن صلاح الدين الأيوبي، وهو طقس تطوّر عن أساليب تحفيز الجنود للحرب.
واعتاد أهالي وزوّار مدينة نابلس في هذا اليوم على مسيرة "عدّة الشيخ نظمي" بعد صلاة العصر، لتصل إلى جامع الحنبلي في البلدة القديمة، الذي يحتوي على شعر للنبي محمد، يخرج مرتين في العام: ليلة القدر وليلة إحياء ذكرة مولده، ويتجمع الناس حولها للتبرّك بها.
ولفت الشيخ صنوبر أنّ هذا الأثر موجود في نابلس منذ العام 1911، بعد أن أرسلها السلطان العثماني محمد رشاد الخامس هديةً لعلمائها.
وعلاوةً على الزينة الكثيفة والفرق الصوفية التي تجوب المدينة، والحلوى والبخور الذي ينتشر في كل ركن بالبلدة القديمة، انتظم كما في السنوات السابقة حفل رئيسي في منطقة باب الساحة، أو ساحة النصر، امتد منذ ما بعد صلاة العصر وحتى صلاة العشاء، بمشاركة العديد من فرق الإنشاد الديني، إضافةً إلى حفل آخر عند الدوّار وسط المدينة بحضور الآلاف.
وأحيا أهالي المدينة الذكرى هذا العام باحتفالين لقراءة قصة المولد، أولهما في جامع البيك، والثاني في ديوان الشيخ مسلم، إضافة إلى فعاليات كثيرة للأطفال الذين ارتدوا ملابس خاصة تراثية في أماكن عدّة بالمدينة، منها ما نظمه مركز حمدي منكو.
وكان الجميع فرحاً في نابلس، التي لا مثيل لطقوس احتفالها بيوم المولد النبوي في فلسطين، مع عدم إغفال بعض الطقوس الاحتفالية المتميّزة في مدينتي القدس والخليل، الأمر الذي جعل من المدينة التي تقع في شمال الضفة الغربية مزاراً للآلاف، ليس فقط من محيطها، بل من كافة المدن الفلسطينية.