حين قرعت الخيبة الأبواب كلها في بيروت فوتت واحداً: "مترو المدينة" في شارع الحمرا حيث لا تزال بقية من فرح وحياة في العاصمة التي أنهكتها أخيراً "واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية والمالية في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر" (البنك الدولي، 2021)، وجائحة "كوفيد-19"، وانفجار المرفأ الذي خلّف عشرات القتلى وآلاف الجرحى.
في المكان الضيق الذي أتم عامه العاشر في 8 يناير/ كانون الثاني، يقدّم موسيقيون ومؤدون وممثلون عروضهم، ثم يخرجون للسهر مع جمهورهم، "لأن هذه العلاقة الطبيعية بين الفنان والمشاهد... لسنا بحاجة إلى نجوم وآلهة جدد في هذه البلاد"، يقول هشام جابر، وهو واحد من مؤسسي "مترو المدينة" ومديره الفني.
"العربي الجديد" التقت جابر بمناسبة الذكرى العاشرة على تأسيس "مترو المدينة" ومشروعه الجديد "المهنية" الذي انطلقت أول صفوفه التعليمية في 18 مارس/آذار الحالي.
كيف بدأت فكرة تأسيس "مترو المدينة"؟
الفكرة الأساسية كانت افتتاح مكان يقدم عروضاً يومية ويعيش من شباك التذاكر، وتبلورت على مراحل؛ المسرح التقليدي ومشاهدته بالطريقة الكلاسيكية، أي حين يكون المشاهد متلقّياً فقط، كانت محط سؤال عندي، وقمت بتجارب عدة في هذا السياق، بينها مثلاً عرض في مبنى الأمن العام في بيروت وآخر استدعيت فيه الجمهور إلى الخشبة.
وكنت أسأل نفسي: ما هو المسرح الذي نريده؟ كنا نريد مسرحاً يستقطب جمهوراً من دون أن يغرق في الابتذال والسخافة. مسرح يمول نفسه بنفسه، ويعيش من شباك التذاكر. واتجهنا إلى خيار الكباريه، وهو موجود منذ الثلاثينيات والأربعينيات؛ مكان يقصده الشخص للشرب والأكل ومشاهدة "النُمر". نحن أخذنا الشكل، وحولناه إلى تجربتنا الخاصة، وكان "مترو المدينة".
كيف يؤثر الشكل الذي يعتمده "مترو المدينة" على تجربة رواده، خاصة أن فكرة تقديم الطعام والشراب خلال العروض قد تلقى معارضة البعض؟
صحيح أن من يرتاد "مترو المدينة" يمكنه الأكل والشرب، ولكنه في الوقت نفسه يشاهد عرضاً يمكن تقديمه في المسرح التقليدي. خدمة الطعام والشراب لا تؤثر على ما نقدمه. العرض هو ما يفرض سلطته على المشاهد، والمكان له حرمته طبعاً، والناس يدركون ذلك.
كيف تصف تجربة "مترو المدينة"؟
نعتمد نموذجاً متحركاً في "مترو المدينة"؛ لا نكتفي فقط بعرض مسرح يومي، بل البرنامج اليومي نفسه متحرك. فمدينة مثل بيروت، يحق لأهلها أن يكون لهم مسرح يومي. والفكرة الأبرز هي خلق مكان حميم يشعر فيه الناس بالفرح. أردنا مسرحاً يستقطب جمهوراً، إنما من دون التنازل فنياً. وهكذا كان.
وجدنا أنّ الحوار الأنسب مع الناس يكون عبر الموسيقى. لأننا مجتمع سمعي، فطريقنا عبر الموسيقى أقرب. وبدأنا بتقديم العروض التي تجمع المسرح والموسيقى. وقدمنا تجارب عدة، بدءاً بـ"كباريه شو" و"العميل الملتهب والراقصة المزدوجة" وعالم التفنيص (2012)، وصولاً إلى "هشك بشك شو" (عرض غنائي موسيقي يحاكي موسيقى الأفراح المصرية القديمة) الذي لا يزال يعرض منذ عام 2013. هذه التجارب دفعتنا إلى البحث أكثر والتفتيش في الخريطة الموسيقية والفنية قبل الحرب اللبنانية (1975 – 1990). فالمشهد الموسيقي تغير تماماً بعد الحرب، إما لهجرة نجومه أو ابتعادهم لأسباب عدة أو حتى وفاتهم. تعرفنا إلى هؤلاء، ومنهم كانت عروض مثل "متروفون" أو تلك التي نستعيد فيها الـ"ريبرتوار" العربي، اللبناني والمصري تحديداً.
من هو جمهور "مترو المدينة"؟
جمهور "مترو المدينة" يختلف باختلاف العروض، فنحن نقدم الهيب هوب والراب، والطرب، والارتجال، وغيره. حين بدأنا عرض "هشك بشك" مثلاً، كان الشباب أول الحاضرين، ثم اصطحبوا أهلهم الذين بدأوا أيضاً بالحضور مع أصدقاء لهم. اكتشفنا خلال العروض، إن عبر "هشك بشك شو" أو تلك التي يقدمها عبد الكريم الشعّار (طرب) مثلاً، أنّ هناك جيلاً كاملاً تتجاهله جهات الإنتاج السائدة، لظنها أنّ الفئة الأولى من المستهلكين هم من الأصغر سناً الذين قد يرضون بأي شيء. لكن هناك جيل غائب تماماً بانشغالاته وهمومه وحياته، وهو يحب الخروج والاستماع والمشاهدة. وعلى عكس ما تظن جهات الإنتاج السائدة، الناس لا يملكون ذوقاً واحداً، بل أمزجة مختلفة، وهذا ما نقدمه.
كيف تُموّل إنتاجات "مترو المدينة"؟ وعلى أي أساس تقرر العروض؟
تمويلنا "من دهنه سقيله". نمول أنفسنا من بيع التذاكر والمشروبات في المكان. ومواردنا بالأساس هي موارد بشرية. أما ما نقرر إنتاجه فيعتمد على التجربة، وبما نكتشفه خلال رحلتنا، وبما نريد قوله لجمهورنا. ونحن نكتشف الخريطة الموسيقية والمشهدية في المنطقة، طالعتنا قصص عدة جربنا ولعبنا بها. وصحيح أننا نستعيد دائماً "ريبرتوارات" سابقة، إلا أننا نملك تجربتنا الخاصة. "السيرك السياسي" مثلاً عرض مؤلف من أوله لآخره، وعرض في "مهرجانات بيت الدين الدولية" عام 2015.
"مترو المدينة" والقائمون عليه واضحون في مواقفهم السياسية، إن لجهة ما يحصل في لبنان أو في فلسطين المحتلة أو سورية أو مصر، ماذا تقول عن ذلك؟
موقفنا طبيعي لأي إنسان يعيش في هذه المنطقة. "مترو المدينة" مكان تقدمي، ويقدّم فناً تقدمياً. نؤمن بأن الفرح أساس للتجربة، والفرح مفتاح كبير ضد الخوف والظلم... حين اندلعت ثورة 17 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019، وجدنا أنفسنا كلنا من دون تفكير واتفاق في الشارع. جمدنا فعالياتنا الفنية كلها، وبعد شهر عدنا، وقدمنا "ليالي في حب الثورة" مخفضين أسعار البطاقات (تطبيق نظام قد ما بدك بتدفع). كانت تلك الفترة الأجمل في حياتنا في "مترو المدينة". وتصب في السياق نفسه تجربتنا في "أغاني سرفيسات" منذ عام 2015، وفي تعاوننا مع فرقة "الراحل الكبير". لا نساوم على مواقفنا، ونحن باقون في هذه المدينة التي بقدر ما تتحملنا، بقدر ما يأتي الناس إلينا ويتحملون مواقفنا. إذا لم تعد تتحملنا معناه أنّ المدينة لا حاجة بها لنا.
كيف صمد "مترو المدينة" بعد تفشي جائحة "كوفيد-19" وقبلها الانهيار الاقتصادي في البلاد وبينهما انفجار مرفأ بيروت؟
وباء كورونا كارثة ضربت العالم كله. بعد تفشي الفيروس، حاولنا مواصلة عملنا، فبدأنا بالتمرن على الأسطح والمتابعة عبر شبكة الإنترنت، كما قدمنا عروضنا بهذا الشكل. هناك فنانون وموظفون يعتمدون على "مترو المدينة" في العيش، فلم يكن أمامنا إلا التفكير في الحلول والبدائل، وهذه أهمية المسرح الذي يعيش من شباك التذاكر، إذ يبحث دائماً عن بدائل. نعمل كلنا معاً، ونتقاسم الإيرادات بعد اقتطاع المصاريف منها، كالإيجار وفاتورة الكهرباء... ولا نزال حالياً نستقبل نصف السعة الاستيعابية للمكان. لكن منذ رأس السنة، بدا كأن الناس بدأوا بالعودة إلى الحياة والفرح مجدداً. انفجار 4 أغسطس/ آب 2020 دمرنا جميعاً. والناس كأنهم يتذكرون الآن أن الفرح موجود. وهم إذا لم يفرحوا ويتخلصوا من الخوف، يبقون عمياناً.
كيف يتم التعاون مع الفنانين من خارج لبنان؟
خشبتنا صغيرة، ولا قدرة مادية لنا على استضافة الفرق الكبيرة. لكن خلال جولات هذه الفرق في المنطقة، ترغب في تقديم عرض أو أكثر في "مترو المدينة" لخصوصية المكان وتفرده. الأمر نفسه حصل مع المؤدي الكوميدي الفلسطيني علاء أبو دياب الذي قدم عرضاً في "مترو المدينة" في فبراير/شباط. أما في العروض التي تقدمها المصرية مريم صالح مثلاً، فنكتفي باستضافتها هي لتتعاون في العروض مع موسيقيين من لبنان.
ماذا عن غياب العروض الموسيقية من المغرب العربي؟
هذه ملاحظة جيدة، وأناقشها دائماً مع أصدقائي من تونس. بين المغرب العربي ولبنان فجوة ثقافية غير مفهومة رغم القرب بينهما، وتحديداً بين التونسيين واللبنانيين. ونحن كما قلت، يصعب على خشبتنا استقبال الفرق هذه، كما أنّ إمكانياتنا المادية محدودة في ظل انهيار سعر الصرف في البلاد.
ما الذي تتطلعون إليه في "مترو المدينة" مستقبلاً؟
بكل بساطة، نحن باقون هنا طالما هذه المدينة لا تزال بحاجة إلينا. كل الحلول مطروحة ونحن مستعدون لها، شرط أن "تكون الناس مبسوطة، ونحنا مبسوطين". نحاول قدر الإمكان التفكير في حلول بعيدة عن الحصول على تمويل خارجي، كي لا نخرب النموذج الخاص بنا. علينا إيجاد حلول مع المدينة التي نعيش فيها.
هل يمكن أن تتضمن هذه الحلول انتقال "مترو المدينة" من شارع الحمرا؟
الحمرا كان شارعاً تجارياً/ ثقافياً لجنسيات وطوائف وطبقات مختلفة. وهنا يكمن جماله، إذ يشبه "مترو المدينة". لا نريد ترك الحمرا. لكن في نهاية المطاف، اللعبة كلها قائمة على البشر. البشر عمود تجربتنا، وهم أساس هذا البلد.
كيف تصف المشهد المسرحي في لبنان اليوم؟
هناك حركة عروض في البلد. وعن نفسي، أنا مع نظرية العمل بلا أمل. لا يجب أن نتأمل كثيراً كي لا تخيب توقعاتنا، لكن المهم أن نعمل بفرح. بعد انفجار بيروت، قررت إنني لا أريد مغادرة البلاد. وثورة 17 أكتوبر منحتني كثيراً من الأمل في الحياة. أمل يكفيني للعمل خلال السنوات المقبلة.
حدثنا عن مشروع "المهنية" الذي تديرونه مع "المورد الثقافي" و"الصندوق العربي للثقافة والفنون".
هذا المشروع يستهدف الجيل الأصغر. جيل جديد يستحق الأفضل، ولا يحمل الكثير من العقد والخيبات والهزائم التي ورثناها نحن. هو مشروع مدرسة فنون، واخترنا 8 مواهب لتدريبها وتمكينها من الدراسة والعمل في السوق الفني عبر برنامج دراسي يأخذ بعين الاعتبار كل موهبة وما تحتاجه من دراسة ومهارات لتضعها على الطريق نحو "المؤدي الشامل" الذي يستطيع العزف والغناء وتأدية فنون التمثيل والرقص والتهريج والإيماء والدمى...
تضم مرحلتين: التدريسية، ومدتها 9 أشهر وتشمل تحليلاً وسمعاً وقراءة نوط وكتابة نظرية غربي وشرقي والعزف والغناء والتوزيع الموسيقي... والتطبيقية، ومدتها أيضاً 9 أشهر بعد انتهاء المرحلة التدريسية، وفيها يدخل التلامذة مرحلة المشاركة في العروض الحية التي يقدّمها "مترو المدينة". ومدرسو "المهنية" هم إلى الآن: أسامة عبد الفتاح ومكرم أبو الحسن وخالد ياسين ونضال أبي سمرا ورئيف كرم وخلود ياسين ورويدة الغالي وفائق حميصي وفادية التنير وسابين شقير وميسون هلال.