هنري مانشيني: "النمر الوردي" على وشك أن يبدأ

10 أكتوبر 2024
كان في بداية مسيرته الفنية عازف فلوت وبيانو (Getty)
+ الخط -

منذ الفترات المبكرة للسينما، لعبت الموسيقى دوراً رافداً في صناعة التجربة السينمائية. في البداية، أي عندما كانت صامتة، عوضّت الموسيقى غياب الصوت في الفيلم كلّياً. بعد ذلك، أخذت تُستخدم في تعزيز المكنون الدرامي للمَشاهد. هكذا، صار لكتابة موسيقى الأفلام والمسلسلات الإذاعية والتلفزيونية رواد ونجوم، وأنشئت لها استوديوهات وفرق أوركسترالية متخصصة بتنفيذ الساوند تراك، أي اللحن المصاحب للصورة المتحركة، لتدخل بذلك في صلب صناعة الدراما.
حتى منتصف الخمسينيات، انفردت الموسيقى الكلاسيكية بالسينما، ذلك بحكم التاريخ الطويل للمسرح الغنائي، أي الأوبرا. جميع المؤلفين الموسيقيين الذين امتهنوا الكتابة والتوزيع للأفلام كانوا من المؤهلين ضمن مجال العزف والتأليف الأوركسترالي. إلا أن موسيقى الجاز منذئذ بدأت تُسمع بتزايد في صالات العرض وعبر مكبرات التلفزيونات. المؤلف والموزع الموسيقي الأميركي هنري مانشيني Henry Mancini (1924 - 1994)، الذي تُصادف هذا العام مئوية رحيله، كان ممن انتبهوا إلى الكمون التعبيري للجاز، وإمكانية توظيفه درامياً.
تعدُّد مواهب مانشيني الموسيقية ومهاراته سهّل له دخول ميدان الجاز والبراعة فيه، إذ كان في بداية مسيرته الفنية عازف فلوت وبيانو، قبل أن يصير مؤلفاً وموزّعاً وقائد أوركسترا. لئن تبدو تشكيلاتها اليوم أقل عدداً وعدّة، وأقرب إلى الفرق الصغيرة منها إلى الكبيرة، كالفرق السيمفونية والفلهارمونية، فقد كانت موسيقى الجاز في عقديّ الثلاثينيات والأربعينيات تكتب لفرق كبيرة العدد. وعليه، اقتضت الخبرة والمهارة في التوزيع، خصوصاً لآلات النفخيات التي تمتاز بتعقيد الكتابة الموسيقية لجهة المديات الصوتية والكيفية التي يجرى بها تنويطها، أي تنضيدها على الورق.
كان قد سبق لمانشيني أن انتسب إلى فرقة غلين ميلر، وهي واحدة من أشهر الفرق الخاصة بموسيقى الجاز، وتدعى بالفرق الكبيرة (Big Band)، إذ لم يكتف بالعزف ضمن صفوفها، وإنما وزّع ولحّن لها الأغاني والمعزوفات، ليضطلع بخفايا ذلك اللون الموسيقي، وليحسن توظيفه في ما بعد في مؤلفّاته الموسيقية للسينما والتلفزيون.
لعلّ مقطوعة "النمر الوردي" إحدى إبداعات مانشيني الأكثر شهرة وشعبية، وهي نموذج لتطويع اللغة الموسيقية للجاز، بهدف إيجاد بيئة صوتية تصويرية تناسب البيئة الدرامية للقصة حيث تدور الاحداث. بدلاً من الإيحاء موسيقياً برفع الستارة إيذاناً ببدء الحلقة الكرتونية، يؤدي الضرب على نغمتين نافرتين ناشزتين على آلة البيانو في آن، بينما يستمر النقر الخافت على صنج الدرامز إلى إسدال وشاح من الإثارة والغموض، ليكون تمثيلاً موسيقيّاً للمشهدية البوليسيّة، التي يتصدّرها كلٌّ من النمر والمحقق جاك كلوزو.
يضطلّع الإيقاع المنتظم بمهمة اقتفاء الخطوات الخفيفة والخفيّة، كما لو أنها آثارُ لصٍّ أو شبح، في إشارة صوتية إلى الشخصية المحورية والمتوارية، التي تنوي، ضمن سياق القصة، سرقة الماسة. إلا أن الجاز ههنا، بديناميكيته ورشاقة عدّته الإيقاعية، تحديداً صنوج الدارمز، إنما يُضفي على الخطوات المثيرة للريبة طابعاً راقصاً، وروحاً ساخرة.
تشكّل السخرية والغموض العاملين الدراميين الأكثر تمييزاً لسردية "النمر الوردي". موسيقياً، تتجسّد الماسة المُتهيّئة بصورة نمر عبر اللحن، الذي تؤديه آلة الساكسوفون. يُمهَّد لدِخولها انزلاقان نغميّان، واحدٌ صاعد وآخر نازل، يؤدَّيان على كلّ من الغيتار الكهربائي والبيانو، وفي المنسوب الصوتي المنخفض. تتبعهما نقرتين على آلة الكونتراباص، على شكل ارتداد منتظم إيقاعيّاً.
يستمر لحن الساكسوفون المجسِّد لثيمة النمر الوردي بالتشكّل وفق النسق الحركي للخطوات، التي تتلاصق نغميّاً، لتُضفي سمة الغموض، فيما تتباعد زمنيّاً، لتُسمَع كوثباتٍ راقصة. ثمة أيضاً سمة الغرور الظريف، المنضوية تحت عامل السخرية، والتي تُميّز الشخصية الكرتونية الرئيسية. فهي بالأصل وبحسب القصة، جوهرة نفيسة تجلّت في هيئة حيوان فريد اللون. لذا، صُممت برأسٍ سنّوريّ على شكل ماسة، وابتسامة ماكرة رُسِمت على ثغرٍ مُطبقٍ على حاملة سجائر رفيعة.
من حيث الشكل العام، تتبع موسيقى النمر الوردي نموذج الجاز المعروف، بوپ (Bop) الذي شاع منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين حتى منتصف سبعينياته. يتميّز اللون بأسلوب الطرق على الصنج، والنقر المُستمر على وتر الكونترباص، إضافةً إلى تعقيد الانسجامات الهارمونية، واعتمادها ائتلافات هارمونية نافرة.
علاوة على مجموع آلات النفخ النحاسية التي تنحدر من التشكيل الأوركسترالي لفرق الجاز الكبيرة، حيث تدخل منتصفَ المقطوعة، على شكل ارتجال مكتوب، فتؤسس حبكة موسيقية، تُهيّج الأجواء، تستجيب لها آلة الدرامز بالانتقال من الطرق السلس على الصنج، إلى القرع على الطبل، بأسلوب الترعيد.
من أجل اكتمال القالب بجميع أجزاءه، تنفرد آلة الساكسفون، كما هو متعارف عليه في الجاز، بارتجالية غير مكتوبة، تُشكّل قنطرة، تمهّد الطريق لإعادة المقطوعة إلى أجواء البداية، حيث المقطع الثالث والأخير، لتنشأ بذلك حلقة ثلاثية.
لأجل الانفرادية الارتجالية، وُزّعت انسجامات سائغة لمجاميع آلات الوتريات، لتكوّن وسادة هارمونية، تُضفي على الجاز طابعاً كلاسيكياً رومانسياً يُذكّر ببداياته زمن الربع الأول من القرن العشرين. في الإعادة، تحلّ آلة الفلوت مكان آلة الساكسفون في إعادة تقديم اللحن الرئيسي. يُساعد طابعها الأثيري على تعزيز الشعور بالأفول والزوال، وقد شارفت الموسيقى على النهاية.

سينما ودراما
التحديثات الحية

مع هذا، تبقى المقطوعة مينيمالية، شحيحة المواد الصوتية، وبالتالي تبدو للأذن فسيحةً، ما يجعل المكونات الموسيقية، على قلّتها، خاطفة آسرة تتملّك الأذن، تشدّ العين إلى شاشة التلفزيون. على الرغم من مينيماليّتها ووظيفيّتها، من حيث أنها موسيقى جرى إعدادها لتصاحب شارة سلسلة كرتونية، فإن لها قالباً مُتجانساً لجهة اتسّاق الجملة الموسيقيّة الرئيسية التي يؤديها الساكسفون، وسلاسة اندماجها مع، وافتراقها عن، الموتيڤات الفرعية المؤثثة للفراغ الصوتي والمُهيئة للحدث الدرامي، فضلاً عن انتظام الإيقاع الذي يُبقي على حسّ الإثارة والترقب على طول الزمن الموسيقي.

المساهمون