ملياردير جورجي يشتري أكبر الأشجار المعمّرة في البلد، وينقلها كما هي عبر البحر، ليزرعها في حديقة منزله. في نيكاراغوا، يشتري ملياردير صيني ممرّات نهر سان خوان، ليفتح بها قناة جديدة تربط بين محيطين. من هوايات غريبة ومشاريع عجيبة لأثرياء، تنبثق فكرة وثائقيين: الأول "ترويض الحديقة" (2021) لسالوما ياشي، المعروض في برنامج "فوروم" في الدورة الـ71 لـ"مهرجان برلين السينمائي"، المقامة افتراضياً بين الأول والخامس من مارس/ آذار 2021؛ والثاني "حكايات النهر" (2020) للمخرجة اللوكسمبورغية جُولِيَ شرويل.
معالجة الفكرة في النصّين مكانيّةٌ بامتياز. المكان بطلهما، بما يكمن وما يفرز من علاقات وصلات وتواريخ. نزوات الامتلاك قادرة، في لحظة، على تفتيتها، من دون إحساسٍ بذنب. ذلك ما يؤرق الوثائقيان اللذان ينقلان ما يحسّ به الناس، المتجذّر وجدهم في المكان، وهم يراقبون الانقلابات العجيبة التي يشهدها.
كأنّ هناك اتفاقاً بين صانعتيه على نقل أجمل ما في المكانين، وعلى منح الكاميرتين حرية اختيار ما تريدان سرده من قصص، بكلّ الكامن في عدساتهما من إعجاز وقدرة على الإبهار والتعبير. كلّ لقطة في الفيلمين تُغني عن طول كلام. الإيجاز اللغوي يُقابله ترفٌ بصري، يجعل الفيلمين تحفتين سينمائيتين، جمالياتهما فائضة. الأشجار والبحر في "ترويض الحديقة" متداخلان كما في الطبيعة الجورجية، التي توثِّق صانعته سالوما ياشي (1981) عمليات "بيع وشراء" تجرى في مناطق منها. غرائبيّة مشهد سير عَبّارة وسط البحر، "نبتت" وسطها شجرة جوز عملاقة، يقارب سوريالية فكرة نقلها إلى حديقة خاصة. مفردتا عِبارة "حكايات النهر"، تنقلهما كاميرات حسّاسة تزاوج بين مياه نهر سان خوان، المعروض للبيع، وسرديات ومخيال شعبي استلهم تاريخه، ونسج حوله أساطير وحكايات مهدّدة الآن بالزوال.
الوثائقيان غير معنيّين بالبحث عن أصحاب المشاريع. لا يرد اسم الملياردير الجورجي ورئيس وزراء جورجيا السابق بيدزينا إيفانيشفيلي إلا مرة واحدة، وبالكاد يُذكر اسم الملياردير الصيني وانغ جينغ، في "حكايات النهر". أفكارهما ورغبتهما في الاستحواذ على ثروات طبيعية تُشغل بال صانعتي الفيلمين. المعارضة لها في المنجزين متباينة الشدة والنوع. تميل الجورجية سالوما إلى سرد داخلي، يكشف تردّداً وإحسّاساً شديداً بالندم على قبولهم التخلّي عن أشجار، صارت جزءاً من تاريخهم. العرض السخيّ الذي يُقدّمه وسطاء الملياردير تصعب مقاومته. مبالغ كبيرة من المال مقابل أشجار واقفة منذ عقود، تُغري بقبول تلفّه مُمانعات خجولة معلنة باستيحاء. هناك إحساسٌ دائم بالفجيعة، يُنتَظر التعبير عنه في اللحظة المناسبة. على وجوده تحافظ صانعة الوثائقي وتبقيه حاضراً تحت السطح، طيلة تسجيلها تفاصيل اقتلاع الأشجار، المصحوب دائماً بموسيقى جنائزية (فيليب تشومبي وتسيليا ستروم).
في "حكايات النهر"، يأخذ الاعتراض على مشروعٍ، يلفّه الغموض، بُعداً تاريخياً وأنثروبولوجياً. فلطالما حلم الغزاة بتحويل مجرى نهر سان خوان، الرابط بين المحيطين الهادئ والأطلسي، إلى قناة ناقلة لثروات منهوبة. في أوائل القرن الـ16، تصارع للسيطرة عليه الإنكليز والإسبان، وفي عصور المال الحديثة، يريد الملياردير الصيني شراءه. لا يتورّط الوثائقي في الحديث عن هيمنات استعمارية وصراع ثقافات فجّ. يستغلّ وجود ناشط بيئي وتربوي، في قرية إل كاستيلو، الواقعة ضمن حدود "منطقة القناة"، ويرافق تجربته.
يأتي يمن جوردان تاسغا لوبيز إلى القرية بمشروع مسرحي، يلعب أدواره طلاب المدارس، ويحاكي نصّه فكرة إقامة مشروع القناة. يُعيد جانباً من علاقات استعمارية قديمة، وصراعات دموية تركت نُدباً عميقة في جسد النهر وأرواح ساكني ضفافه. بأسلوبٍ تربوي منفتح، يشتغل على نبش جوانيات الطلبة الصغار، والتقرّب من أحلامهم ومخاوفهم من تشرّد مُنتظر لعوائلهم، وتخريب لبيئتهم. يجعل من حواراته معهم خامات لنصّه المقترح. تجربته المنقولة بكاميرات تعرف المكان جيداً وتلمّ بتاريخه، تنفتح على مساحات جمالية مذهلة (تصوير داميان بلاندولي)، مصحوبة بموسيقى (باسكال كارير) تُعيد روح الأزمان الغابرة، وتُحيي مجدّداً مشاعر حنين ورغبة في الحفاظ على ما ينبغي له البقاء.
التفريط بما لا ينبغي التفريط به يُزيد إحساس باعة الأشجار بالندم في جورجيا. يتكثّف ويشتدّ في لحظة الإعلان عن بدء نقل أكبر الأشجار وأطولها عمراً إلى مكان غريب، غير مكانها الأول، الذي أَحيت حياتها فيه. بمشهدٍ جنائزي، مُلتَقَط بعدسات مفتوحة على سعتها (تصوير باهر لجوجا ديفارياني وسالوما ياشي)، يودّع سكان القرية شجرتهم. يبكي بعضهم بحرقة على "تنازل" مُذلٍّ وخيانة عِشْرة. نساء القرية يودّعنها كما يودّعن عزيزاً لهنّ إلى مقبرة. وفي الطرف الثاني من البحر، يعتني بها مزارعو حديقة الملياردير كما لو أنها شجرته، التي يعرفها، والتي جلس ولعب تحت ظلالها في طفولته.