- يتميز الفيلم بأسلوبه الفريد في التعامل مع موضوعات حساسة مثل الحجاب الإلزامي والتحرش، مستخدمًا الفكاهة كأداة للنقد الاجتماعي والسياسي، مما يُظهر قوة الفكاهة في التعبير عن الاستياء.
- على الرغم من التحديات، حظي الفيلم بالاعتراف الدولي وشارك في مهرجان "كان"، مُظهرًا قوة السينما في التعبير عن القضايا الاجتماعية والسياسية وكمثال على الإبداع في مواجهة القيود.
تشهد يوميات طهران حوادث يومية مرتبطة بإلزامية الحجاب، وتدخّلات شرطة الأخلاق، والفساد والتحرّش وفرض مظاهر التديّن، والرقابة على الأفلام، وشروط التوظيف المرتبطة بكفاءة دينية، هذا كلّه عاديّ، طُرح سابقاً في عشرات الأفلام الإيرانية. تقديم قصصٍ قصيرة مستقلّة في فيلمٍ واحد، هذا أيضاً ليس جديداً. حُسْن إدارة الممثلين، إلى درجة لا غبار عليها، أمرٌ مُعتاد في السينما الإيرانية كذلك.
إذاً، ما الذي جعل فيلم يوميات طهران (2024)، للمُخرجَين علي عسكري وعلي رضا خاتمي، فيلماً إيرانياً مُبتكراً، وممتعاً بمحتواه، ومفاجئاً بأسلوبه، ومدهشاً بأداء ممثليه؟
آيات أرضية أو يوميات طهران
من خلال لوحاتٍ، تُسلِّط الضوء على أفرادٍ ونظام، وتغمرُ المتأمّل فيها بملامح من الحياة اليومية لطهران، تتوضّح استحالة الحوار بين طرفين. في كلّ لوحة من "آيات أرضية" (الترجمة الحرفية للعنوان الإنكليزي: Terrestial Verses، المترجم حرفياً عن العنوان الفارسي)، أو "يوميات طهران" (العنوان الفرنسي)، بطلٌ واحد في مواجهة شخصٍ ما غير مرئيّ، يصل صوته من خلف الكاميرا. صوت رجل، غالباً، يصل عميقاً وحادّاً وبارداً. يُفترض بصاحب الصوت أنْ يكون ممثلاً للدولة، أو ناطقاً باسمها. كلّ قصةٍ مشهدٌ واحد في مكان الحدث، الذي يكون هيئةً حكومية (مكتب السجل المدني، مكتب هندسي، مركز الشرطة، هيئة الرقابة على الأفلام، إلخ)، أو شركة خاصة، أو مدرسة، أو متجر.
في كلّ قصة، شخصية مختلفة: رجلٌ يُسجّل ولادة ابنه، وأمٌّ تبحث لابنتها الصغيرة عن لباسٍ مدرسيّ لائق، وطالبة تُستدعى إلى الإدارة لسببٍ "أخلاقي"، وشابّة تُعطى مخالفة مرورية، وأخرى تذهب إلى مقابلة عمل، وشاب موشوم يريد استلام رخصة قيادة، ورجل عاطل عن العمل يستجيب لإعلان، ومخرج يطلب تصريحاً للتصوير، وامرأة تبحث عن كلبها.
تسعة وجوه للحياة اليومية في طهران، تُصوّر شخصياتها في مشاهد متسلسلة ـ اسكتشات (77 دقيقة). تنصبّ اللقطات فيها بأكملها على الشخصية، وردود فعلها أمام ما تسمعه من محاورها. ترتسم تلك الردود بتعابير وجه، أو حركة جسد، أو ردّ ذكي. كلّها، دائماً، في مكانها الصحيح، وموزونة بدقّة متناهية. الصورة شديدة النقاء والتقشّف. محيط بارد وحيادي الألوان، وخالٍ ممّا يُحيد الأنظار عن بطلٍ، يقع دائماً تحت الضوء، في مركز العدسة في لقطاتٍ ثابتة ومُقرّبة، كالحاصل مع السيدة صاحبة الكلب الضائع، الغارقة في ألوان زاهية وزينة ظاهرة في مركز للشرطة؛ أو واسعة كتلك التي تظهر الفتاة المرتبكة في محيط مناسب لتحرّشات صاحب العمل.
لا تحيد الكاميرا عن بطلها لحظةً واحدة. لا حركة حوله. لا عابر، ولا مقيم. الشخص المقابل بطل ثانٍ، خارج الإطار، لا يظهر، مُعزّزاً بذلك انطباعاً بالآلية والبرودة من خلال صوته. كلّ كلمة في الحوار بين اثنين موظّفة بذكاء شديد. أخذٌ وردّ بين شخصين، مليئان (الأخذ والردّ) بإيحاءات وفخاخ، عن موقف ما تتعارض فيه إرادة شخص مع محرّمات في البلد. حوار يتّسم بروح دعابة فائقة في رهافتها، مُشيرةً إلى أوضاع عبثية يعيشها الفرد في طهران اليوم.
الفكاهة سلاحُ إدانة هائلة
إنْ كانت تلك مُثيرة لدهشة أو نفور، فإنّ تعامل الكتابة (عسكَري ورضا خاتمي) والإخراج معها يتمّ بخفة مبهرة في سخريتها وطرافتها، وفي تعبيرها الواقعي عن وضع قريب بمدلولاته من اللامعقول. الفكاهة سلاحُ إدانة هائلة، ووسيلة للتغلّب على العجز. في معظم المشاهد، حوار عبثي (مع بعض مبالغة) مُثير لضحك. مثلاً: مشهد الفتاة الصغيرة، ذات الأعوام الثمانية، في المتجر، وهي تنطّ لاهيةً على إيقاع موسيقى تصلها من سمّاعاتٍ، تفصلها عن نقاشات جديّة لأمّها مع البائعة، حول نوع الحجاب المدرسي والمعطف الطويل، ومدى ملاءمتهما للمشاركة في حفلة المدرسة. الصغيرة لا تعي كلّ هذا النقاش حول حجابها الإلزامي، غير الضروري برأيها.
مشاكل يواجهها الإيرانيون، بين الفرد والإدارة، وما تفرضه من قواعد دينية. مثلاً: تقود صَدَف السيارةَ من دون حجاب. حلقت شعرها بالكامل، لتردّ على حجّة شرطة الأخلاق. العامل المتقدّم للوظيفة يُطلَب منه شرح أركان الإسلام، وتبيان معرفته بالوضوء (مع بعض مبالغة، لكنّها مُوظَّفة بذكاء شديد، بحيث يمكن تصديقها). العجوز التي تجد في كلبها صحبةً تُخفّف من وحدتها، لكنْ لا أحد في مركز الشرطة يعبأ بالكلاب الضائعة، لا سيما أنّ تربية الكلاب ممنوعة في إيران (هذا لا يمنع أفراداً من فعل ذلك).
في "يوميات طهران" أيضاً مشاكل لا يواجهها الإيرانيون وحدهم، لكنّ نقاشها مع المسؤولين يجعلها تبدو كأنّها وجدت خاصةً في هذا البلد. مثلاً: فائزة، التي تتعرّض للتحرّش، وقبولها في العمل مشروط بخضوعها (تكفي نظرة على ما يحدث في عالم السينما في الغرب اليوم). تدخّل الإدارات الرسمية الإيرانية في منح أسماء المواليد، وهذا بات مُطبّقاً حتى في الغرب (فرنسا مثلاً). هذا المشهد، الذي يُستهلّ به الفيلم (مع مشهد الاختبار الديني)، من أجمل الحوارات وأكثرها مُتعةً وذكاءً وتعبيراً عن تناقضات. ففي إيران، تُمنع الأسماء غير الإيرانية، وحين يُصرّ أب على اسم دافيد، يبدأ حوار لا مخرج منه مع الموظّف. يقترح هذا أسماء أخرى، حسين مثلاً. لكنْ، هذا أيضا ليس اسماً إيرانياً، يرد الأب. كذلك مشهد حوار مخرج مع موظّف الرقابة، الذي طالما تحدّث عنه السينمائيون الإيرانيون، مُجسِّداً هنا بكلّ طرافته واقع السينمائيين ومعاناتهم من تغيّر السياسة الرقابية باستمرار، لتتلاءم مع الظروف السياسية والاجتماعية.
قوة الحوار، في هذا الفيلم، الثاني لعلي عسكَري (1982) بعد "إلى الغد" (2022)، تمثّلت في كونه مجادلات ذكية بين طرفين، ليس فيها قوي وضعيف، وذكي وغبي، بل نقاشات مدروسة في كلّ مناسبة، وأهدافها صريحة أحياناً، ومموّهة أحياناً أخرى، تتناول فرض المعاني الدينية، والتمسّك بحرفية المنع، واستغلال المواطن لكلّ تناقض في أقوال المسؤول وادّعاءاته، لينتهي الأمر بقبولِ المفروض، مع كلّ ما يمثّله من عبثية.
هكذا يُسلّط "يوميات طهران" ـ بأسلوبٍ مبتكر وممتع، وكتابة رائعة وثاقبة ـ الضوء على الصراع بين مجتمع إيراني وحكومة، عمّا يُمكن تسميته بحوار الطرشان، لطرفٍ باحث عن معنى المنع، وآخر يفتقر إلى حجج لإقناعه.
علي عسكَري مُنع لفترةٍ من مغادرة إيران، بسبب فيلمه هذا المُشارك في "نظرة ما"، في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان "كانّ"، ثم رُفع المنع عنه. بينما يُقيم علي رضا خاتمي (1980) في كندا. إنّهما يُرافقان الفيلم حالياً، المعروض في صالات فرنسية، تجارياً كما في مهرجانات مختلفة.