التقليد المهني غير محبّذٍ احتفالاً بذكرى معيّنة، إن لم يكن عدد السنوات 10، أو ربع قرن، أو نصف قرن، أو مائة قرن. بعد 40 يوماً على رحيل شخصية، عامة أو خاصة، يُحتفل بذكرى رحيلها. هذا تقليد مهني وحياتي، يتجاوزه البعض، لأنّ هناك مناسبات تستدعي تجاوزاً كهذا، أحياناً.
في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1963، أي قبل 60 عاماً، يُقتل الرئيس الأميركي جون فيتزجيرالد كينيدي. مناسبةٌ يُذكِّر بها الملحق الأسبوعي "ويك أند"، الصادر عن "لو سوار" (صحيفة يومية بلجيكية باللغة الفرنسية)، في 18 ـ 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2023. ذكرى تستعيد حكاية شابٍ وسيم وفاتن وساحر، يُقتل قبل 6 أشهرٍ وأسبوع من احتفاله بعيد ميلاده الـ46. التذكير غير محصور بأفلامٍ، بل بكتبٍ وأعمال توثيقية مختلفة.
أفلامٌ عدّة تُستعاد في ذكرى كهذه. بعضها يتناول لحظاتٍ تكاد تُغيّر مسار تاريخٍ وعلاقات، وبعضها الآخر ينبش في التفاصيل الدقيقة للاغتيال، وما قبله من تحضيرات، ومن يتورّط فيه.
"يُقال" إنّ I… Comme Icare، الذي يُنجزه الفرنسي هنري فَرْنوي عام 1979، يستوحي فكرته الأساسية، وتفاصيل عامة قليلة، من اغتيال جون كينيدي. علماً أنّ المتداول كامنٌ في استعارته تيمة يُعالجها الأميركي ألان جاي باكولا، في The Parallax View (أو "بسبب اغتيال"، بحسب العنوان الفرنسي، 1974). الفرنسي يتابع تحقيقات مُكثّفة وعميقة عن اغتيال مارك جاري (غابريال كاتّان)، المنتخب ثانيةً لرئاسة دولة في الغرب، غير مذكور اسمها، في سبعينيات القرن الـ20. الثاني يتابع سلسلة اغتيالاتٍ يتعرّض لها شهودٌ على اغتيال سيناتور أميركي. المشترك بينهما مرتكز على مسألتين اثنتين: اغتيال سياسي، تتبعه تصفيات جسدية لشهودٍ؛ وتحقيق قضائي لاحقٌ به، يُعرِّض عاملين ـ عاملات فيه لمخاطر جمّة.
عنوان فيلم فَرْنوي (عامان اثنان يمضيهما المخرج في كتابة السيناريو) يُحيل إلى أسطورة إغريقية، عن Icare، ابن مهندس معماري أثيني وعبدة من كريت، الذي يُقرِّر الهروب من متاهةٍ يُقيم فيها فتحاصره إلى حدّ الاختناق، مستعيناً بجناحين يصنعهما والده من الشمع والريش. لكنّه يموت باقترابه من الشمس، التي تُذيب الشمع بحرارتها. كأنّ كلّ اقتراب من الشمس/الحقيقة، قاتلٌ أو مُهدِّد بالقتل.
المدّعي العام هنري فولني (إيف مونتان)، عضو لجنة تحقيق يترأسها فريديريك أيْنيغِر (ميشال أتْشِفِرّي)، رئيس محكمة العدل العليا، للتحقيق في اغتيال الرئيس، يرفض التوقيع على التقرير النهائي للتحقيقات، لعدم اقتناعه بالوارد فيه، والوارد هذا شبيهٌ تماماً بالحاصل غداة اغتيال كينيدي: الاغتيال قتلٌ ناتجٌ من تصرّف فرديّ. كما أنّ فولني يُشبه كثيراً جيم غارّيسن، المدّعي العام الأميركي، الباحث عن حقائق تنفي التقرير الأول وتفاصيله غير المُقنعة، وغير المنطقية، وتكشف كَمَّ التلاعب بالوقائع.
غارّيسن يظهر على الشاشة الكبيرة بفضل كيفن كوستنر، في "جاي أف كاي" (1991) لأوليفر ستون، أحد أهمّ الأفلام الأميركية المعنية بالاغتيال الأشهر في النصف الثاني من القرن الماضي. وإذ يمضي فرنوي عامين اثنين في كتابة السيناريو، فإنّ ستون يمضي أعواماً منقِّباً في الأرشيف وكواليس السياسة والقضاء والإعلام، بحثاً عن كلّ مُفيدٍ له في قول رأيٍّ مغلّف باشتغال سينمائي باهر، يتساوى بجمالياته الفنية والدرامية العامة مع I… Comme Icare: تفكيكُ ظاهرٍ، مليء بألغام السياسة والأمن والقضاء والمافيات والمعارضة الكوبية (جاي أف كاي)، وهذا غير مختلفٍ عامة عن تفكيك يُنجزه فرنوي، وإن تكن مادته السينمائية مبنية على قصة خيالية، فالخيال منبثقٌ من وقائع حيّة، منها السابق على إنجاز فيلمه هذا، بعد 16 عاماً على اغتيال كينيدي.
كوستنر نفسه سيكون له دورٌ أساسيّ في فيلمٍ آخر عن جون كينيدي: "13 يوماً" (2000) لروجر دونالدسن. الشخصية حقيقية بدورها، إذ يؤدّي دور كينيث باتريك أودونُل، المستشار السياسي الذي يُصبح مساعداً خاصاً ومُقرّباً من الرئيس كينيدي بين عامي 1961 و1963. فيلم دونالدسن يُركّز على الأيام الـ13 التي تواجه فيها الإدارة الأميركية تحدّياً سوفييتياً خطراً، يتمثّل بتركيب الاتحاد السوفييتي قواعد لصواريخ نووية في كوبا، تكتشفها طائرة تجسّس أميركية في 14 أكتوبر/تشرين الأول 1962 (بروس غرينوود يؤدّي دور كينيدي، وستيفن كُلْب دور شقيقه المدعي العام روبرت كينيدي).
في الفيلمين، يوظّف كوستنر طاقته التمثيلية لأداء دورين غير سهلين البتّة، بسبب التركيبة متنوّعة الجوانب للشخصيتين الحقيقيتين، وللظروف المحيطة بحياة كلّ واحدة منها، الخاصة والعامة. حضور كوستنر فيهما طاغٍ، بتجاوزه الشخصية/المحور، أي كينيدي نفسه. علماً أنّ "جاي أف كاي" و"13 يوماً" يُشكّلان وثيقةً واقعية، مشغولة سينمائياً بحرفيتين تختلف إحداهما عن الأخرى، عن حادثتين أساسيتين في سيرة جون كينيدي.