Big Thief: سِفر التكوين وسرّ الوعي والبطاطا المقلية

قبل أيام، أصدرت فرقة الروك الأميركية، Big Thief ألبوماً مزدوجاً جديداً يحمل عنوان Dragon New Warm Mountain I Believe in You، وهو الإصدار الرسمي الخامس في مسيرة الفرقة التي كانت قد بدأت تتألق وتسيطر على مشهد الفولك روك الأميركي، قبل أن يصطدم العالم بجائحة "كوفيد-19".

رُشّح ألبوم Big Thief السابق، U.F.O.F. الذي صدر عام 2019 لجائزة "غرامي" عن فئة أفضل ألبوم في الموسيقى البديلة، ورُشّحت أغنية Not، من الألبوم نفسه، لجائزة أفضل أغنية روك وأفضل أداء روك في العام نفسه، كما أن الأغنية حققت أعلى درجة لأغنية روك في قائمة "بيلبورد 200" في العام نفسه. هذه العوامل ساهمت بتسليط الضوء على الفرقة، قبل أن تتعطل عجلة إنتاجها عام 2020.

بالنسبة للألبوم الجديد، فهو يضم 20 أغنية، موزعة على جزأين، أُنتجت وسُجلت في بداية سنة 2020، وصدرت منها ثماني أغان منفردة في وقتٍ سابق. لكن إصدار الألبوم تأخر بتأثير الجائحة، التي فرضت على محتوى العمل بعض التغييرات الطفيفة.

الإصدار يبدو مليئاً بالبهجة كما يوحي العنوان، إنه غريب وبسيط في الوقت نفسه، أشبه بالثرثرات العفوية التي تدور في استوديوهات التسجيل، من دون أن تحتفظ بها آلات التسجيل، فالأغاني تطرح العديد من المواضيع وتعيد نقاشها، وكأنّها لا تزال على طاولة الإعداد، ليزيد هذا الشكل من غرابة هذا الإصدار. إلا أن الأمر الذي يستحق الإشادة بـ Big Thief في هذا السياق، ليس قيامها بإنتاج أغان غريبة، بل بتقديم الغرابة بهذا القدر من الإتقان والبساطة التي تجعل كل ما هو غريب مألوفاً وممكناً.

المواضيع التي تناقشها الفرقة، ضمن هذه الإطار، تبدو متنوعة ومتباعدة، لا تجتمع عادةً تحت غطاء ألبوم له ثيمة واضحة ومتسقة كهذه؛ إذ يناقش الألبوم كل ما يمكن أن يخطر في البال، من دون أن يضع أي ضوابط، ليتحدث عن الإشارات ولغة الإنترنت، ويربطها بالأوراق المتساقطة والخريف، ويتحدث عن التصنيفات البرية والجروح التي نُلحقها بالكوكب وببعضنا بعضاً، ويناقش سِفر التكوين وسر الوعي والبطاطا المقلية.

ومع الوقوف العرضي على العنوان الطويل للألبوم الذي جاء بدوره كاختزال لجملة ترددها نجمة الفرقة لينكير، في أغنية Anything التي طرحتها بشكل مسبق عام 2020، إذ كانت الجملة: Dragon in the new warm mountain, Didn't you believe in me؟ فإننا نفهم شكل اللعبة التي تمارسها Big Thief، فكل ما يرد في الألبوم ليس سوى ألعاب طفولية تبدو قد صيغت بهدف الاستكشاف، وتطوير المهارات المعرفية؛ حيث يرد في الأغاني عشرين مرة السؤال نفسه: "ما الذي يجب علينا أن نفعله الآن؟". وتتم الإجابة عن السؤال بطريقة مختلفة عشرين مرة؛ فكل تلك النقاشات التي تبدو للحظة جادة، ليست سوى ألعاب طفولية، ينعكس من خلالها هزلية العالم، لتلغي Big Thief المساحات الفارغة التي تفصل بين الجد والهزل وتطور النقاشات العامة إلى حد انعدام أي ثقلٍ فيها.

ومن خلال الاعتماد على ألحان مرتبطة بالثقافة الشعبية، تصبح كل النقاشات الغريبة عن المواضيع العامة أكثر ألفةً، لتتحول الكلمات مع الوصول إلى الجزء الثاني من الألبوم إلى ما يشبه بياناً مترامي الأطراف، فيه الكثير من المواقف المتأرجحة مع القليل من الاهتمام بالتماسك الخارجي، يُقدم فيه مزيج من الاختراعات المتنوعة والجمال المذهل وروح الدعابة المنعزلة التي قد تكسر القوالب في أي لحظة.

ينتهي العمل وهو يحافظ على ذات القدر من الغرابة، من دون الوصول إلى أي نتيجة من كل الأسئلة والأبواب التي فتحت وبقيت مفتوحة؛ فلم يكن الغرض منذ البداية الوصول لأي نتيجة، وكل ما حدث خلال الإصدار كان ألعاباً لغوية موسيقية، ستترك أثراً مبهجاً، وتداعب التفكير الواعي، من دون أن تقدم أجوبة تساعد على الخلود إلى اليقين.

على الرغم من أن مدة الألبوم تتجاوز الثمانين دقيقة، إلا أنه يبقى محافظاً على سوية عالية من الجودة وعلى البهجة والمتعة طوال الوقت. مع ذلك، يمكن الإشارة إلى بعض الأغاني التي تصل إلى مستوى أعلى من الإبداع، كما هو الحال في أغنية Spud Infinity التي تمثل واحدة من أفضل لحظات الألبوم، فهي الأغنية الأكثر تشويشاً واختلاطاً بالمفاهيم والموسيقى، ويبدو فيها أسلوب المحاكاة الساخر التي تمارسه Big Thief في مناقشة الأمور العامة أكثر جاذبية.

وعلى الرغم من نهايتها الغريبة التي تصل إلى الحديث عن "خياطة البطاطا"، إلا أننا نشعر أثناء الاستماع إلى الأغنية بأنها حقيقية تماماً وصادقة إلى حد الإثارة. يلعب الدور الأبرز بذلك جودة الأداء والموسيقى التي تستولي على الانتباه طول الوقت. وإضافة لذلك، فإن لعبة التلميحات التي تتضمنها الأغنية، والتي تكشف عن الجانب الآخر من Big Thief التي بدأت تكشف عن هوية مختلفة لها، تبدو مثيرة بشكل خاص لجمهور الفرقة ومتابعيها.

ومن ناحية أخرى، فإن العديد من الأغاني تبدو فيها الفرقة تحافظ على ذات الروح التي نعرفها في ألبوماتها القديمة، كما هو الحال في أغاني Wake Me up to Drive وBlue Lightning وغيرهما من الأغاني التي تزداد جرعة الرومانسية فيها التي تزداد نسبياً مع نهاية الألبوم.