كل الضجيج الذي سبق عرض وثائقي "العساكر" للمخرج المصري عماد الدين السيّد على شاشة "الجزيرة"، كان يعدنا بشريط استثنائي، وبشهادات نسمعها للمرة الأولى من مجندين في الجيش المصري، وبـ"كشف أسرار التجنيد الإجباري في مصر"، وفق الإعلان الترويجي.
لكن لا الوثائقي كان استثنائياً، ولا الشهادات التي سمعناها كانت جديدة أو جذّابة أو تحمل تفاصيل غير معروفة في الشارع المصري، ولا الأسرار كانت بالفعل "أسراراً".
كما أن الجدل والهجوم الذي تعرّض له الوثائقي من قبل إعلام النظام المصري، أوحى أن العمل "قنبلة" إعلامية حقيقية. لكن للأسف، جاء الشريط مخيباً للآمال وفق كل المعايير.
بدا كأن العمل الذي استغرق أكثر من عام، في التحضير والتصوير، قد أنجز على عجلٍ، من دون محاولة الانتقال من الشريط الاستعراضي إلى الشريط الوثائقي الحقيقي. كيف؟ ببساطة، مرّت 51 دقيقة، وهي مدة الشريط، بنمطية مملة، من دون أي محاولة حقيقية للقيام بالدور البديهي للوثائقي، وهو "توثيق" الشهادات.
بل اقتصر العمل على نقل الكلام على لسان مجندين، فقط لا غير، من دون أدلة، من دون إثبات لأي من الاتهامات الموجهة إلى الضباط والمؤسسة العسكرية باستخدام المجندين، لأهداف شخصية وخاصة. حتى الصور التي استخدمها الشريط، اقتصرت على تجميع من هنا وهناك (مع بعض اللقطات المسربة الباهتة)، من دون أي مجهود حقيقي، يجعل من الشريط مادة توثيقية يعتمد عليها. أما المشاهد التمثيلية فقد زادت من ضعف الشريط فظهرت باهتة ورديئة فنياً.
هذا في الشكل العام للعمل، أما في مضمونه، فنستمع تباعاً إلى شهادات مجندين أخفوا وجوههم وعدلوا أصواتهم (وهو حق بديهي طبعاً) يتكلمون عن اللحظة الأولى لدخولهم الجيش، أي من الفحص الطبي، وصولاً إلى التدريبات ثمّ استخدامهم في أغراض شخصية للضباط وعائلاتهم، وغيرها من المهام التي لا ترتبط بشروط التدريب العسكري، لمجندين يفترض أن يدركوا أصول القتال لو دعت الحاجة. نستمع فقط إلى عبارات من نوع "العسكري غير مؤهل إنو يضرب في حرب، مؤهل إنه يضرب بس في ميدان الرماية"... كمادة توثيقية وحيدة لغياب أي تدريب جدي للمجندين.
مادة توثيقية مبنية على الحكايات المتناقلة فقط لا غير. أما باقي الشهادات يرددها المجندون عن معاقبتهم "بوضعية الشواية" أو "بشتم الأم".. حكايات تشبه ما يردده كل المجندين بعد انتهاء خدمتهم.
إلى جانب شهادات العسكريين، نستمع إلى شهادة الخبير العسكري الأميركي نورفيل دي أتكين، الذي شغل منصب مدير البرامج العسكرية بمكتب التعاون العسكري في مصر بين العامين 1981 و1983، أي منذ 35 عاماً.
الخبير الدولي يدلي برأيه (بإسهاب) حول نفسية المجند، وحول العروض العسكرية التي تقدم لإبهار الضباط والرئيس (وهي سمة مشتركة مع قسم لا بأس به من الجيوش العربية) ثمّ يظهر لنا صوراً خلال خدمته في مصر. انتهى دوره هنا. لم يحمل كلامه أي إضافة حقيقية تثري المضمون أو تعكس لنا معلومات "دقيقة" عن أحوال المجندين.
ماذا أيضاً؟ بعد النصف الأول من الشريط، تتحول المادة إلى مجرد لقطات وشهادات مملة. ننتظر المعلومات الحقيقية، الأرقام عن نسب المنضمين للجيش، وعدد الذين يتلقون تدريبات.. ننتظر لمحة سريعة عن تاريخ التجنيد الإجباري، أو عن تغيّر هذه الخدمة منذ انطلاقها حتى اليوم، عن طريقة توزيع المجندين على مراكزهم... لكن هذه المعلومات لا تأتي. لم يجب الشريط عن أي من الأسئلة التي طرحت قبل العرض، أو التي انتظرها المشاهد. لم يحم المخرج مادته البصرية بأدلة وبراهين، ولا بمعلومات خاصة، يعرضها على متخصصين وخبراء يجيبون عليها، ينتقدونها، يوضحونها.
اكتفى برواية شعبوية لـ"معاناة المجندين"، على خلفية موسيقى ــ كليشيه، بينها أغنية "عبد الودود" للشيخ إمام، وهي الأغنية التي تظهر عند كل حديث عن الجيش المصري.
ما عرضته شاشة "الجزيرة" ليلة أمس لم يكن وثائقياً. الاستسهال في كل تفاصيل الشريط بدا واضحاً، من النص إلى الصور وحتى الموسيقى، نزع عنه صفته. ليتحوّل إلى فيلم بسيط، يستعرض شهادات "عادية" ومعروفة، ويتحوّل مخرجه إلى "ساعي بريد" ينقل الكلام كما هو، من دون تدقيق، وتوثيق.
ببساطة واضحة، "الجزيرة" التي أسست لمدرسة حقيقية في عالم إنتاج الوثائقيات، سقطت في امتحان ليلة الأحد.