ليس سرّاً أنّ الإعلام الفرنسي في قطاعه الواسع لم يكن متحمساً لاحتجاجات يوم أمس، الخميس، في فرنسا، إن لم يكن يخشاها ويعاديها، وأحياناً يحذّر منها، بل إن القنوات الإعلامية أصرّت على منح صدى أكبر للخطابات الحكومية، فكان واضحاً تغييب أي إمكانية للتفسير أو للتضامن مع المضربين.
دخل إضراب أصاب شبكة النقل العام بالشلل وتسبب في إغلاق المدارس في أنحاء فرنسا، يومه الثاني، اليوم الجمعة، وتقول نقابات العمال إنها تعتزم الاستمرار في الإضراب إلى أن يتخلّى الرئيس إيمانويل ماكرون عن خطة لإصلاح نظام معاشات التقاعد.
وهذا الموقف العام من القنوات وجد قوته الضاربة في القناة الـ16 "سي نيوز" التي تُشغّل الإعلامي العنصري والمدان قضائياً أكثر من مرة إيريك زمور، رغم اعتراض كثير من المعلنين والضيوف السياسيين، كما كتب موقع "ميديا بارت"، اليوم الجمعة، وكشفت مقالة "ميديا بارت" كيف يُهان ضيوف هذه القناة، من النقابيين ومن الداعين للإضراب، ويُمنعون من مواصلة الحديث، وتحديداً من مقدّم البرامج الذي لا يُخفي مواقفه اليمينية والمعادية للمسلمين، باسكال برو، بمؤازرة طاقم من جان كلود داسيي الذي لا يتورع عن وصف الإضراب بأنه ليس سوى "إزعاج الناس"، والصحافي القادم من "فرانس 2" المملوكة للدولة جيرار لوكلير.
Twitter Post
|
واستعرض "ميديا بارت" الأجواء "الكارثية" التي يسلط عليها الصحافيون في القناة المذكورة الضوء، مثل الحديث عن الحوادث والتخريب من طرف جمهور متظاهر "لا يعرف قيمة العمل"، ثم من طرف عنصر خارجي، في إشارة إلى زعيم حزب "فرنسا المتمردة" جان لوك ميلانشون الذي ألقى كلمة في تظاهرة مارسيليا، صباح أمس.
ووصف موقع "ميديا بارت" سياسة التغطية في القناة بالقول: "لدينا الانطباع بما سيكون عليه التلفزيون العمومي في حال انتصار اليمين المتطرف. مارين لوبان تحلم به، وقناة (سي نيوز) تقوم به"، أي " إقصاء كل كلام لليسار".
وما يؤكد الخطأ المهني لهذه القناة هو موقف قناة أخرى، "بي إف إم تيفي"، التي سمحت بنقل كلمة ميلانشون من مارسيليا، وهو تصريح "كان هو الحدث الأهم في الصباح، إن لم نقل طوال النهار"، وخاصة حين علَّق على دعوة مارين لوبان للإضراب بالقول: "إنها عادة ما تقضي وقتها في البحث عن نزاعات مع العرب والمسلمين. لقد دعت للتظاهر وإذن فهي تتقدم نحو الإنسانوية".
Twitter Post
|
ولكن كلمة ميلانشون، حتى وإن لم تتعرض للرقابة في قناة "إل سي اي"، إلا أنها لم تفلت من الرد من طرف صحافيين ومن طرف ضيوف أُعدّوا للمناسبة، وهو ما قام به رئيس الأغلبية في مجلس النواب، جيل لوجوندر، الذي برر وجود محافظ أمن صارم، ينتقده متظاهرون وأحزاب اليسار، بسبب أساليبه العنيفة.
فالقنوات الإخبارية، كما رأى "ميديا بارت"، "لا تبعث على الاطمئنان، بل تقلق. ويجب على الشاشة أن تظل شاشة، وإن تسلُّلَ انتفاضات ومطالبات لا يجب أن يَحدُث. وإن كل ما يعطي رغبة في التعبئة، كما حدث سنة 1968، يجب احتواؤُهُ وخنقُهُ وإخفاؤه". وهو ما يعني بنوع من السخرية والمرارة أنه "حين يعلن الأمين العام لنقابة (سي جي تي) فيليب مارتينيز أنه (يوجد ضجيج في الشارع، وآمُل أن تكون نوافذ الإليزيه مفتوحة)، تقوم القنوات الإخبارية بإطفاء الأضواء".
وتحدثت المقالة عن رغبات متعمَّدة من طرف هذه القنوات الإخبارية، في عدم إيصال حقيقة ما يجري في الشارع: "مستحيل قراءة الشعارات التي توجد على اللافتات، مستحيل سماع الضجيج والهدير والمطالبات الخارجة من صدور المتظاهرين". وحتى حين يأتي صوت من التظاهرة، عبر ميكرو الرصيف، "يتم اختيار مدرّس خارج الحشود، ويتم اختباره وتجريبه بعناية".
Twitter Post
|
وإذن، فمثلما تفعل الشرطة، فإن التلفزيون يقوم بالفرز، ويقنن، ويُسكِتُ. أي أنه "يكمم أفواه الحقيقة، من أجل أن يجعلنا عميانا وصُمّا أمام هذه التظاهرات".
وبما أن كل هذه المحاولات غير كافية، أي ما رأيناه وسمعناه، ورغم الفرز، سيأتي المدد من كلام رسمي، وخاصة من طرف برلمانيي "الجمهورية إلى الأمام" وبتأويل مناسب. ويلتزم هؤلاء الحكوميون الذين تنفتح أمامهم الشاشات بتكتيك مفاده أنهم يحترمون حق الإضراب، وأنهم ينصتون، وأنهم سيرافقون بتعاطفهم الأسطوري الفرنسيين في معاناتهم، ولكن الإضراب والتظاهر لن يستفيد منه سوى أصحاب الامتيازات، في حين أن المتظاهرين الآخَرين عاجزون عن إدراك أنهم سيكونون الفائزين من هذا الإصلاح، وخاصة المدرّسين.
وحين ينتفض أحد الضيوف من داعمي الإضراب، يتم إيقافه عن الكلام، بدعوى العودة إلى الشارع حيث التظاهرات. أو كما يفعل الإعلامي جان مارك مورانديني في قناة "سي نيوز"، باللجوء إلى بث مقاطع من اسكتش قديم ساخر يتحدث عن امتيازات موظفي سكك الحديد.
يضاف إلى كل ما سبق التحليلاتُ التي ترى أن "كل تظاهرة محكومة بالفشل"، وأن المتظاهرين سيتيحون في وقت معين فظاعات وتخريب ممتلكات، وأيضاً تركيز القنوات مع قرب انتهاء التظاهرات على "التوترات التي تصاحب مواكب التظاهرات"، ثم تستعين القنوات بمستشارين ومتخصصين لا يتحدثون سوى عن "الفوضى والتكسير، وعن حالات تنذر بالتمرد والانتفاضة".
وأخيراً سعي بعض الصحافيين إلى تبخيس الإضراب والتحدث عن فشله رغم كل الحقائق، وهو ما عبرت عنه الصحافية ماغالي شالي، من "بي إف إم تيفي"، بقولها إن انسيابية المرور حول العاصمة دليل على أن سكانها أخذوا احتياطاتهم، وأنهم "مستعدون لمواجهة الإضراب"، وهو ما اعترض عليه النقابي جان هيدو، من نقابة "قوة عمالية"، بقوله إن "الانسيابية، وهو ما غاب عن ذهن الصحافية، تعني أن الناس لا يريدون الظهور، لأنهم مضربون".
وانتهت المقالة بهذه الخلاصة المؤلمة التي تستحضر قولا شهيرا لنابليون: "آه، لو كنت أمتلك وكالة تاس، (وكالة إخبارية روسية)، ما كان أحدٌ ليعرف خسارتي في معركة واترلو".